Dr. Salam Slim Saad
Latest posts by Dr. Salam Slim Saad (see all)

بقلم يوسف طراد

الإيمان والعقل في فكر شارل مالك
من يقرأ كتاب “القضية اللبنانية في فكر الدكتور شارل مالك” للدكتور ميشال الشمّاعي، يعلم أنّنا خسرنا عمر الوطن من أجل القضايا الكبرى المتعلّقة بغيرنا، وصراع وكلاء الأنبياء بيننا.
دعانا الدكتور مالك، لمواصلة النضال للغد الآتي، كي نصبح ثواراً من أجل ابتسامة حبّ وتسامح وفسحة وطن، كي لا يفترسنا العدم، ما دام الأوغاد مغتصبو الأراضي، والحالمون بثغر على المتوسط، يرابضون على أبواب القرارات الوطنيّة وحلمنا الأخير بوطننا.
فتح ميشال الشمّاعي لمعة الشغف الثمين في زهو فكر الدكتور مالك. فكانت كتابات وكتب الأخير إلهاماً وذكريات أمل، تشدو شمائل الودّ للوطن.
غزلَ الحكمة من ضوء العقل المستنير، حِبْرَ وصال بين الصفحات والأقلام، ترفد الإنسان بالنقاء وبصائر الإنسانية، مزدهية في مبسم الإيمان، بلذّةٍ لا ألم فيها، واندفاعة تُقًى من الكتب السماويّة.
أخذنا الباحث الحالم بوطن أفلاطوني، إلى فضاءات التواضع الرّحبة، التي لا تعترف بقيود الدهر والبشر والحجر، حيث قال عن الدكتور مالك: “سكب تواضعه في قالب أرزيّ وغرسه على أعلى منبر من منابر العالم”. نعم، تألّق الدكتور مالك على أعلى المنابر من أجل الإنسان والوطن. راقص الخيال الإيمانيّ الخصب بعقلانيّة الواقع، فقال المؤلّف عن فكره: “خلاصة فكر الدكتور مالك هي التوفيق والجمع بين الإيمان والعقل”.
وحده الإيمان يختزل كلّ الحكاية، ليشرق النور بصحوه العذب فوق أسرار الظلام، فقد دوّن الباحث مقتطفًا من حديث للدكتور مالك، جاهر به أمام أستاذه القاضي الشيخ أسعد جرمانوس، ليؤكد لنا أن القلب لا يضل سبيله إذا كان ملاذه الإيمان القويم، ناشدًا سماوات لا يصلها بالفكر سوى من يستحقّ السموّ إليها أمثال مالك: “بكلّ بساطة، إنّ الإنسان يسعى في الأديان كلّها إلى أن يصير نصف إله، أو في حال تعبّده المطلق قد يصير الإله الكامل. أمّا في المسيحية فالإله صار إنسانًا ليعظّم شأن الإنسان”.
تساؤلات وهمس وتحليل حول ماهيّة سياسة الدكتور مالك، لكنّ الشمّاعي اعتبرها فجرًا جديدًا للوطن بعد ضلال، حين أوضح موقف هذه السياسة من الحزب السوري القومي الاجتماعي، وبعد المساجلة التي دارت بين مالك وأنطون سعادة في بلدة ضهور الشوير، حاول الزعيم إقناع الفيلسوف المفكّر المؤمن بدخول معترك السياسة عبر بوّابة حزبه، “إلّا أن صلابة عقيدة شارل مالك المسيحيّة وقوّة التزامه منعتاه من الولاء إلى أيّ حزب، أو فكر يعارضها… وانطلاقًا من وحدانيّة ولائه المسيحيّ رفض شارل مالك الانتساب…”.
كما أورد الكاتب موقف الدكتور مالك من الصهيونية ودولة إسرائيل، والموقف المقابل لهذا الكيان الغاصب من طروحات الأخير، وجاء وفق ما ورد في الكتاب على لسان “أبا إيبان”: “إنّ شارل مالك هو أعنف خصوم إسرائيل والصهيونيّة”، فقد كان مالك “أول من طرح فكرة تدويل القدس، إذ رأى أنها مهد الديانات السماويّة الثلاث”. وكأنّه كان يعلم مسبقًا مستقبل الأمور، فقد كان كلامه استباقيًا للقرار الذي جعل القدس عاصمة لإسرئيل ونقل الولايات المتّحدة سفارتها إليها عام 2018.
انطلاقًا من الكيانيّة المسيحيّة المشرقيّة، التي هي ركن أساسيّ في بناء الوطن، وتفاعلها مع الكيانيّة المسلمة، واندماج هاتين الكيانيّتين، في أرقى تفاعل حضاري، مؤلّفتين كيانيّة الوطن الواحد، عبر الشمّاعي بفكر مالك الذي تأثر بفكر القديسين توما الأكويني وأغوسطينوس، مقارعًا العديد من الفلاسفة الملحدين، عبرَ إلى الإنسانيّة الكونيّة التي جسّدها مالك في شرعة حقوق الإنسان، والتي ارتكزت برأي الشمّاعي على الثوابت المسيحيّة وخاصّة قيمة الإنسان البنيويّة والروحيّة، وانفتحت على جميع مكوّنات المجتمع، وتفاعلت حضاريًّا مع جميع الأديان من أجل رفعة الإنسان.

تخطى مالك بعبوره الفكر القومي السوري الاجتماعي الذي يسعى إلى اندماج الأديان، إذ ارتكزت على تفاعل هذه الأديان. فلبنان هو البلد الوحيد في الشرق الأوسط، تتفاعل فيه الأديان مرتقية إلى القدوة المجتمعيّة، هذا إذا زالت أسباب التدخّلات الخارجية، التي أثّرت عليه منذ قبل زمن نكبة 1948، والنزوح الفلسطيني، ومحاولة تفتيته من قِبَل العدو الإسرائيلي، وجعله كيانات عنصريّة على غرار كيان إسرائيل، وغيرها من الطموحات الأجنبيّة على حساب الكيانيّة اللبنانيّة الثابتة في وثيقة الطائف. “لذلك يسعى هذا العدوّ إلى ضرب نموذج تعدّدي يحيط به، من هنا يشكّل النّموذج اللبناني في العيش المشترك ضمن نظام تعدّدي الهدف الأول لهذا العدوّ”.
أظهر الكاتب انتماءه الحزبي الذي لا لِبْس فيه، معتبرًا أنّ حزب القوّات اللبنانيّة هو وريث فكر شارل مالك، ساعيًا إلى ترجمته من أجل وطن أبديٍّ سرمديّ يضمّ جميع أبنائه. ظهر هذا الانتماء في عدّة مواقف خلال الكتاب اعتباراً من أهدائه: “…إلى حضرة رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع المحترم الذي علّمني بتقديره الحريّة معناها حتى أصبحت جوهر وجودي في هذا العالم”. إلى ذكره تحت عنوان “الحريّة من مقدساتنا” نبذة من خطاب الدكتور جعجع في مطار بيروت بعد 4114 يومًا من الاعتقال السياسي: “إن جوهر الوجود البشري هو تلك الارادة الحرّة التي ميّز الله الإنسان بها عن سائر المخلوقات، فلا يجوز التخلّي عنها أو مبادلتها بأي شيء آخر”.
ولم ينته بوصف إيمان الدكتور جعجع بالحريّة: “إنّ هناك من يؤمن بالحريّة، ولن يرضى عنها بديلًا سيّما وأنه لم يستبدلها بـ 4114 يومًا من الاعتقال”، بل تخطاه إلى أمور سياديّة وطنيّة، تتعلق بهذا الحزب. وقد ظهر هذا الفخر بالإنتماء الحزبي جليًّا، عندما قال المؤلّف تحت عنوان “حزب الوجود المسيحي الحرّ”: “اليوم الفخر بتاريخي يأسر كلّ أخطائي. لن أعدّد مزايا حزبي. لن أسترجع مواقف البطولة حيث عبقت ساحات الشّرف ببخور الشهادة. ولا حتّى عندما طيّب بلسم الحرّيّة في ساحات الحرّيّة جراح ثلاثة عقود قهر وذلٍّ وتنكيل”.
ميشال الشمّاعي كاتب وباحث، جمع بين المحبّة والفلسفة والدين والسياسة ومبادئ الإنسانيّة، مرتكزً ا إلى فكر من وضع شرعة حقوق الإنسان، وجعلها سياجًا يحمي وجود لبنان الجميل بجغرافيته المتجلّية بعنفوان الجبل وانفتاح البحر، لنفخر بعيشنا المشترك، ونركل القدر الذي يجعلنا نختبىء متعانقين، “… مسيحية ومسلمين إذ “تتثبّت فكرة قيام الكيان اللبناني اليوم على هذين الرّكنين الأساسيّين. وباختلال أيٍّ منهما تسقط الكيانيّة اللّبنانيّة”.
هل هو قدر الوطن أن يعجن من الغمام خبزه، وتفترش الأوهام سبيله؟ وهل يبقى صامدًا في وجه العواصف متأقلمًا معها؟ كما قال الأديب جبران خليل جبران: “علّمت نفسي حب العواصف لا الخوف منها”. وهل سيبقى فجر نور الوطن في المنفى، فوق خارطة العودة إلى عروس المدائن وأرض الشام؟
إذا عاد كلّ لبنانيّ إلى طروحات مالك، وآمن بها إيمانه بكتابه، ولملم الأحلام الضّالّة منذ فجر هذا الوطن، ممارسّا العدالة الاجتماعيّة، وفق مقاييس الإنسانيّة بصمت الرهبان وإصرار بشير الجميّل على بناء دولة، وجبران التويني إلى إيصال الحقيقة إلى كلّ المجتمع، يعود صوت الوطن مناديًا الجميع، ليحضنهم بدفء السلام والأمان.

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادي الكتاب اللبناني

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading