Dr. Salam Slim Saad
Latest posts by Dr. Salam Slim Saad (see all)

بقلم يوسف طراد

عبورٌ غير سلسٍ
“عبور” الكتابُ الثالث ضمن مجلّد “كتاب العتب” للأستاذ ملحم الرياشي، الصادر عن دار سائر المشرق للنشر، بطبعته الأولى عام 2017. كتابٌ انتشرت في سطوره روحٌ بقيت أمانيها غافية.
جلسنا على أرصفة الحياة في وطننا، نحدّق في مآسينا. وحدها الأسّرة في المشافي، خجلت من انتظار الأحبّة للنهايات التي ارتدت الصمت الرمادي والألم الذي طال أمده. بينما صبّ الكاتب جلّ اهتمامه على العناية بوالده ومتابعة مرضه، فحَمَلَ صفات من قال عنه الأديب الإلماني توماس مان: “الاهتمام بالمرض والموت ما هو الّا صور من الإهتمام بالحياة.”
جاء في مقدّمة الكتاب: “هذا الكتاب، ليقول حكاية رجلٍ عاديّ مع مرض السّرطان القاتل…” من كتب هذه المقدّمة مشى بخطى الألم نحو الزبد الأخير لبحر الحنان الأبوي. لم يتعب الوقت من الدوران على أنين مريضٍ في دوامة السراب الدامي، فسارت الأفكار إلى ثغر الأفق المتراخي فوق التلال البعيدة، التي ظهرت منها لصوص الحيوات، معلنةٌ قدرًا لكلّ روحٍ. تهادى الخشوع الساكن في حبر السطور مع صلاة عناقٍ مؤجّلٍ، خاصةً عند حيرة الأطبّاء في اختيار العلاج، فتيقّن الابن النهاية المحتومة لأبيه؛ هذه الحالة تحدّث عنها الطبيب والكاتب المسرحي الروسي أنطوان تشيخوف: “عندما يقترحون عليك عدّة علاجاتٍ لمريضٍ، فهذا يعني إنه لا يمكن علاجه”.
وصف الكاتب كبرياء جميلةٍ هَوَت، بطريقةٍ رفعت اختلاجات مشاعر إلى درجاتٍ ساميةٍ، “ليلة الميلاد… جلس لمدّة دقيقةٍ… ثم توارى بهدوء إلى زاوية الغرفة محاولًا أن ينعزل عن العالم، لا بل أن يخرج من العالم…” يحضر أمامنا جلال وكبرياء الطيور كما ورد في كتاب “العصافير تختبىء لتموت” للكاتبة الأسترالية كولين ماك كولوغ؛ أوليست الأرواح تروي ظمأها كالعصافير من نشوةٍ هاربةٍ خارج الأعمار الحائرة، لتستقر في جنّة الخالق الواحد الأوحد؟
تمتلك نصوص الرياشي هويّةً مميزةً، موشومةً بالرقّة في وقت الحزن، مضّجعةً مع الحقيقة بكلّ أشكالها، مُرّةً أم حلوةً: “متى يتعلّم هذا القوم أن يعمل لأجل الأبد؟ متى يتعلّم أن يفرّق بين الحبّ الأبدي والشهوة العابرة؟!” أيّها الكاتب، الجواب واضحٌ وضوح الشمس: لن يحصل! فمنذ البدء طُرد آدم من الجنّة بسبب الشهوة، وأُنزلت مصائبَ على فرعون بسبب الغرور، فالبشريّة التي لم تعمل من أجل الأبد في زمن الطاعون، أو الكوليرا، أو الهواء الأصفر، أو السّرطان، أوالإيبولا… لن تفعل في زمن كورونا وكوفيد19. قلّةٌ الّذين عملوا بهذه الوصيّة، كالقدّيس شربل مخلوف طبيب السماء، والأخت تريزا التي قالت: “مِن أعظم الأمراض أن تكون لا أحد لأيّ أحد”.
كلّ من يقرأ في كتاب “عبور” تتعذّب مشاعره من الكلام الحزين، وتتهذّب أحلامه بعذوبة لقاء الرب الّذي سيصل مهما تأخر الوقت. كلّما مرّت أمامنا تعابيرٌ وجدانيةٌ من هذا الكتاب، نجد حقيقة غربتنا مع البشر، متلبّسين الشفقة على أحوالنا قبل ضحايا الحروب والأمراض.
لم يصل الوالد إلى أوقاتٍ جميلة خلال وضعه الحرج، أو إلى نقاهةٍ مأمولةٍ، فالذي قال عنه الكاتب المسرحي الإيرلندي جورج برنارد شو: “النقاهة هي الجزء الجميل من المرض” لا ينطبق على الأمراض المستعصية، فالانتقال إلى المقلب الآخر من الحياة هو الجزء الجميل، لأن الموت في هكذا حالات ترفٌ مضاعفٌ.
مشى ملحم الرياشي، بخطى الوقت الهارب مع السرّ الأبدي، ملتمّسًا صواب الخطيئة الأصليّة التي قادتنا مع أمانتنا إلى الضفاف الأخرى، فاقتنص القدر المفقود، وترجمه في كتاب “عبور”.
(من كتاب قراءات فلّاح صفحة ١٦٢).

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادي الكتاب اللبناني

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading