

مقدّمة كتاب “رواية روح” للكاتبة الصّديقة “زينب صالح” بقلم الكاتبة والنّاقدة “ملاك درويش”
——————
عندما تفيض الرّوح حبًّا بخالقها، بعد رحلة مخاضٍ عسيرٍ والنّفس الإنسانيّة، تكون النّتـيجة “رواية روح”.
تختصرُ “رواية روح” في صفحاتها المعدودة للكاتبة الصّاعدة “زينب صالح” رحلة معاناة البطلة “ياسمين” العميقة الجذور في الزّمن النّفسيّ المعادي تارة، والأليف طورًا. واللّافت أنّه زمنٌ لا يتعدّى بضعة أشهر من منظور الفضاء الرّوائيّ، غير أنّه كثيفُ الحضور من منظور الرّؤية السّرديّة المطروقة. لذا، اتّسم الزّمن السّرديّ بالامتداد اللّامحدود، تبعًا للأثر النّفسيّ الّذي احتلّه في فضاء الرّواية.
لم تكنِ الرّحلةُ منطلقةً من أعاجيب الأزمنة أو الأمكنة، رغم أنّها رحلة روح، بل اتّخذت من الشّرفة المكان الخاصّ الأليف محطّةً لارتقاء الرّوح من الجسد، بغيةَ الاتصال والعوالمَ النّفسيّة المحيطة بها، وإن تجسّدت بدورها في روائحَ وأجسادٍ محسوسة، إلّا أنّها تماثلت على شكل أطياف تؤنسُ وحشةَ الرّوح، وتساعدها في إدراك الصّورة المطلقة الّتي تحاولُ -في غيرِ تجربةٍ وخبرةٍ ووعكةٍ مجتمعيّة- أن تبلغَها؛ ذلك أنّها المجرّدة من متعلّقات الزّمن المعادي لانطلاقة الرّوح الإنسانيّة، واتّحادها بالرّوح الأسمى: الله.
كذلك، كان لمكتبةِ الجامعة مساحتها اللّافتة في ظلّ هذا البحث عن الحقيقة؛ لما أدّته الكتب من دورٍ في الإجابة عن تساؤلاتٍ عديدة تخاطر ياسمين من جهة، ومن جهةٍ أخرى فقد أَثرَتِ اللّقاءاتُ بين البطلةِ والحبيب “زياد” المساحة السّرديّة عبر توسيع دائرة الأحداث، ما ساهم بدوره في تنوّع الرّؤى الّتي التزمَ الرّاوي (الرّاوي= البطلة) التّعبير عنها في الفضاء الغالب من النّصّ، فطغى الصّوت الأحاديّ في الرّواية، إلّا ما جاء في الجزء المتبقّي منها، والمتمثّل ببعض الحوارات المتناثرة في غير موضع منها، فضلًا عن الرّسائل الأربع الّتـي جاءت على لسان “زياد”، ما خفّف بدوره من تداعيات التّبئير النّاتجة من الصّوت الرّوائيّ الواحد.
أمّا الزّمن الّذي عبرته الرّوح، فجاء قصيرًا تبعًا لتتابع الأحداث، غير أنّه لا متناهٍ بالحضور النّفسيّ والوقفات التّأمّليّة تبعًا للزّمن السّرديّ وعزّزته تقنية الحوار الدّاخليّ (المونولوج)، فتجد عجلة السّرد تقفز قفزاتٍ سريعة ومنتظمة بلا تخلخل (غياب شبه كلّيّ لتقنية الاسترجاع من زمن السّرد) عندَ الانتقالِ من مرحلةٍ زمنيّة إلى أخرى، غير أنّها تتباطأ، بل وتتجمّد في كلّ مرحلةٍ على حدة، مترجمةً حالةً شعوريّة، ونزعةً اغترابيّةً لازمت البطلة في أثناء محاولاتها لتجاوز المراحل الشّعوريّة- النّفسيّة أو الرّوحيّة -إذا صحّ التّعبير- بدءًا بالتّلقّي للصّدمات فمرورًا بتقبّلها بمنطقيّة، ثمّ وصولًا إلى الإيمان المطلق بالحقيقة المتمحورة حولَ الدّوائر الثّلاث: القراءة والحبّ، والنّضج المعرفيّ بحقيقة الوجود ذاك.
وإذا أردنا مقاربةَ الحدث الرّوائي من منظور (غريماس)، فيمكننا أن نقول إنّ العامل المرسِل هو الضّياع الّذي يصدر عن العامل الذّات “ياسمين”، متأثرًا بعراقيل العامل المعاكس المتمثّل بالنّفس وأهوائها والمجتمع وتصدّعاته، وبمعزّزات العامل المساعد المتمثّل بشخصيّة “أيّوب” الحكيم الّذي لقّنها دروسًا في الصّبر والنّضج النّفسيّ تارةً، وطورًا رسائل “زياد” الّتـي أنارت زاوية الجهل المقلقةَ لروحها، وكلّ ذلك أخذ يتّجهُ نحو المرسَل إليه الرّوح، بهدف بلوغ العامل الموضوع المتمثّل بالنّضج والوعي النّفسيّين للجوهر الإنسانيّ.
بالعودةِ إلى عناصر السّرد، تجدنا نقف عند تعدّديّة الشّخوص موزّعة بين رئيسة (ياسمين وأيّوب وزياد) وثانويّة (رضا والعجوز وأهل الحيّ)، واللّافت في هذا المضمار الاختيار الأنيق لأسمائها بما يتناسب وطباعَها وصفاتِها، ومن الأمثلة عليها “أيّوب” الّذي يحمل من خصائص اسمه ما يجعله أيّوب الرّواية بالفعل؛ لما اتّصف به من صبرٍ ورباطة جأش، وغيرها…
أضف إلى ذلك، يبقى لنا أن نشير إلى تقنية الرّاوي، حيثُ ارتأت الكاتبة تقمّص شخصّياتها، والتّحدّت بألسنتهم والتّعبير عن دواخلهم ونوازعهم عبر تقنيتي الوصف والسّرد، وإن عمدت إلى الحوار الخارجيّ في غير مشهد، ونثرت بعضًا من الرّسائل بلسان “زياد”، إلّأ أنّها كانت المحرّك الرّئيس لسَكَنات شخصيّات الرّواية وأحداثها منذ البداية حتّى الختام، بصفتها الرّوح الّـتي تعبُرُ الأطيافَ حولَها، ولها من القوّات الخارقة، ما يجعلها على علمٍ بما يخبّئه الزّمن عنها.
في ضوء ما تقدّم، “رواية روح” محاولةٌ روائيّةٌ راقية لفهم الذّات الإنسانيّة، وتسجّل لكاتبتها مستقبلًا رائدًا في عالم السّرد إن تمكّنت من تجاوز بعض القيود الفنّيّة، وإن اشتغلت بعنايةٍ أكبرَ على المنظور الرّوائيّ، والنّفس السّرديّ الطّويل. إنّها روايةٌ -كما شخوصها- تحمل من اسمها كثيرًا من صفات صاحبتها الّـتي أكنّ لها صداقةً روحيّة لا توصف، ولا تنحصِرُ في هذه القراءة.
- أطول جملة في “البؤساء” للكاتب ڤيكتور هيجو - ديسمبر 23, 2025
- حوار مع الشاعرة رانيا مرعي - ديسمبر 23, 2025
- اللغة بين قلق الأكاديميين و هشاشة المستهلكين - ديسمبر 14, 2025
