في هذه المقابلة التي أجرتها الأستاذة رحاب هاني خطّار يقدم الدكتور جمال أبو الحسن رؤيته الفريدة للموسيقى والفن، حيث يتحول الإبداع والفطرة إلى لغة عالمية تتجاوز الزمان والمكان. نتعرف على مصادر إلهامه من الطبيعة، التجربة الشخصية، والشعر، وكيف تحوّل كل لحظة من حياته إلى أعمال موسيقية وبصرية نابضة بالروح.

بين الصمت والنغمة،أسرار الإبداع الموسيقي

رحاب هاني:
أول ما لفت انتباهنا هو ارتباطك الفطري بالطبيعة. حين مشينا معًا في هايكينغ تحت المطر، بدا أنك ابن الأرض تمامًا… كيف ينعكس هذا الارتباط في موسيقاك وفنك؟

د. جمال أبو الحسن:
أظن أن الأمر يبدأ من الفطرة؛ فارتباطي بالطبيعة ليس قرارًا اتخذته، بل ميلٌ قديم يسكنني منذ زمن. أنا مغرم بألوانها، بهمس الشجر، وبرقص القمر بين النجوم التي أترقبها كل ليلة. أمتلك عينًا ترى الجمال في التفاصيل، وأمضي نصف وقتي في أحضان الطبيعة، أتنفّس مناظرها، حتى خلال أسفاري بين أمريكا وفيينا.
هذا الانجذاب ينعكس على موسيقاي بوضوح. مرّت فترة كنت أؤلف فيها مستخدمًا أصوات الطيور والشلالات داخل التسجيلات، وكأن الطبيعة تشارك بصوتها في بناء العمل. كانت تلك التجربة جزءًا مهمًا من رحلتي الفنية.

رحاب هاني:
في بيتك، شعرنا بالدفء المنتشر بين التفاصيل: الألوان، اللوحات، جذوع الأشجار المرممة، البيانو، وحتى الدرابزين الذي يتحوّل معك إلى نغمة. كيف يعكس هذا البيت شخصيتك الفنية وهويتك الداخلية؟

د. جمال أبو الحسن:
أعتقد أن أهم ما قمت به، منذ عودتي من أمريكا إلى لبنان، هو هذا البيت. هو مصدر راحتي وأساس بقائي هنا.
أنا والمرحومة زوجتي، “انتصار”، عمّرنا هذا البيت حجرًا فوق حجر. درسنا تفاصيله الصغيرة كأننا نصوغ عملاً فنيًا، لا مجرد مسكن. كنا نملك ذوقًا واحدًا ورغبة أن يكون البيت “أوريجينال”، يعكس شخصيتنا وفنّنا.
بيت الفنان لا يمكن أن يكون عادياً.
من أول المدخل، انطلقت أفكار جريئة: الحجارة البيضاء والسوداء على طريقة مفاتيح البيانو، أشبه بنوتات موسيقية. حتى الدربزين صُمّم كآلة تعزف؛ الحداد طوّع الحديد كما لو أنه يريد العزف على “الهارب”، يقفز بين المنحنيات ليخلق إيقاع الشكل.
وبعد الانتهاء، دوّنت النوتات المنقوشة على الدرابزين وكتبتها بيدي… ثم عزفتها.
المفاجأة أنّها خرجت نغمة سليمة تمامًا، موسيقى جميلة كأن البيت نفسه يقدّم مقطوعته الأولى. من هنا أدركت أن هذا المكان ليس مجرد حجارة، بل نغمة موسيقية تسكن روحنا المشتركة.

رحاب هاني:
في عالم تختلط فيه الألوان باللوحات، والبيانو بالصور، هل ترى كل لوحة كموسيقى صامتة، وكل قطعة موسيقية كمشهد مرئي؟ كيف تتحاور هذه العناصر معك وتشكل مساحة الإلهام لديك؟

د. جمال أبو الحسن:
في فيينا، درست اختصاصًا يُسمّى Musical Graphics، وهو مجال يربط بين الشكل الموسيقي والرسم البصري. الفكرة أن المنظر أو الشكل يمكن أن يخلق موسيقى، لأن هناك تناسقًا بين ما نراه وما نسمعه؛ عناصر الطبيعة نفسها تتحوّل إلى وحدة واحدة: شكلٌ يُترجم إلى صوت، وصوتٌ يمكن تجسيده بصورة.
أول مشروع قدّمته كان بعنوان See My Music. في هذا العمل جرّبت أن أرسم الموسيقى وأقلّلها بصريًا، وكأنني أبحث عن الإيقاع الموجود داخل الشكل. هذا المجال فتح أمامي طريقة جديدة للتفكير: كيف يمكن للعين أن تسمع، وللأذن أن ترى.

رحاب هاني:
بين لوحة “انتصار” التي منحتَها اسمًا، وأخرى تركتَ عنوانها مفتوحًا… هل تؤمن أن اللوحة تُسمّى من الفنان، أم من العين التي تراها؟

د. جمال أبو الحسن:
في الأساس، لست ضليعًا في اللغة كثيرًا. أحيانًا أستعين بالآخرين لإيجاد أفكار للعناوين: زوجتي كانت تساعدني، أو بعض الأصدقاء، أو معجبون، وأحيانًا ابنتي. لكن غالبًا لا أضع عنوانًا بنفسي، لأن العنوان قد يقيد اللوحة أو المقطوعة. أحب أن أترك المجال للمشاهد أو المستمع ليحلل ويستمتع كما يريد.

رحاب هاني:
أنت مؤلف موسيقى تصويرية، موزّع، وصاحب أعمال أوركسترالية واسعة. كيف تُصنع الموسيقى الكبيرة دون أن تعزف جميع الآلات بيديك؟ وما الذي يحدث داخلك حين تسمع ما لا يُعزف؟

د. جمال أبو الحسن:
خلال دراستي وتعمقي بالموسيقى، طورت القدرة على سماع كل آلة في رأسي قبل العزف. أعرف إمكانيات كل آلة، نقاط قوتها وضعفها، وكيفية تمازجها مع غيرها. درست وأتقنت العديد من الآلات الموسيقية، وعملت على التمازج بينها وعائلاتها الوترية، حتى أصبحت كتابة الأوركسترا شيئًا طبيعيًا، دون الحاجة للعزف الفعلي على كل آلة.
عند استخدام الكمبيوتر، يمكنني سماع النتيجة مباشرة أثناء التأليف، بدل الاعتماد على الخيال وحده كما كان سابقًا.

رحاب هاني:
حدثتنا عن ابنتك، وعن صوت المونيتور قبل ولادتها… كيف تحوّلت تلك اللحظة، بكل دهشتها وهشاشتها، إلى مصدر إلهام موسيقي يرافقك؟

د. جمال أبو الحسن:
أحد أعمالي يحمل اسم Dalia Heart Beat. بدأت الفكرة وأنا في المستشفى أتابع ابنتي قبل ولادتها، إذ وُلدت في الشهر السابع. كنت أراقب لحظة بلحظة دقات قلبها بين خوف وفرح، وعندما أنهيت العمل الموسيقي، وُلدت داليا في اليوم التالي ووُضعت في الحاضنة.
خلال تلك الفترة، ألّفت لها مجموعة موسيقية وكنت أشغّلها داخل الحاضنة، أراقب تفاعلها وتغيّر ملامحها مع الموسيقى. لاحقًا، شاهد الطاقم الطبي تفاعل الأطفال الآخرين مع العمل، وطلبوا تشغيله لجميع الأطفال داخل الحاضنة. ومنذ تلك اللحظة، أصبحت دقات القلب موسيقى أسمعها قبل أن أراها.

عندما كنت صغيراً قرأت رسائل جبران خليل جبران،

وأُعجبت بها كثيراً

رحاب هاني:
في ألبومك “ألوان سيمفونية”، نجد تواصلاً مع تراث لبنان والعالم، ومع الشعراء الذين تركوا أثرًا عميقًا في الوجدان. ما الذي جذبك إلى هذا العالم الشعري، وكيف انعكس في أعمالك؟

د. جمال أبو الحسن:
عندما كنت صغيرًا، قرأت رسائل جبران خليل جبران وأُعجبت بأسلوبه كثيرًا. بعدها قرأت أعماله مثل الأرواح المتمردة، عواصف، والأجنحة المتكسّرة أكثر من مرة لأفهمها بعمق أكبر. أحببت شعراء آخرين مثل نزار قباني وسعيد عقل لما لهم من صور موسيقية وانفعالات قوية.
في فيينا، وجدت كتب جبران بالألمانية بالصدفة، وشعرت بفرح كبير. أول عمل موسيقي كبير ألّفته هناك غُني باللغة العربية مستوحى من أعمال جبران. وحتى في أمريكا، ألّفت بعض الأعمال مستوحاة من النبي، مزجت فيها الإلقاء الشعري بالموسيقى لتصبح تجربة موسيقية غنية بالصور والانفعالات.
كما اشتغلت على أعمال وطنية بعد الحرب في مدينة صور، وعملت مع شعراء من جنوب لبنان مثل شوقي بزيع، إلياس لحود، وعصام العبدالله، وكذلك على مهرجان ضخم في زحلة. أغلب هذه الأعمال كانت مستوحاة من شعر سعيد عقل، لتجسّد الموسيقى الانفعالات والهوية الوطنية بطريقة حية ومؤثرة.

رحاب هاني:
الموسيقى تتجاوز الكلمات أحيانًا… عندما تمتزج ألحانك بكلمات الشعراء، هل تشعر أن رسالة إنسانية مشتركة تصل إلى كل من يسمعها؟

د. جمال أبو الحسن:
الموسيقى والشعر يحملان رسالة إنسانية واحدة تتجاوز اللغة والحدود. عندما تمتزج الألحان بالكلمات، يصبح للعمل أثر عاطفي مباشر يصل إلى الناس أينما كانوا، لأن الموسيقى لغة إحساس وليست مجرد لغة فهم.
لكي يتفاعل المستمع مع هذه الأعمال ويستوعبها بالكامل، من المفيد أن يكون متذوقًا للفن ويمتلك وعيًا وثقافة موسيقية. في الخارج، يدرس الناس هذه الثقافة في المدارس تحت مسمى Art of Listening، وهو منهج علمته أيضًا في الجامعة. هناك يُستخدم العلاج بالموسيقى أحيانًا كجزء من الثقافة الموسيقية.
أما الجمهور اللبناني، فقد أبدى تقبّلًا وإعجابًا كبيرًا بأعمالي، رغم أنني لا أقدّم أكثر من حفلين في السنة، حرصًا على جودة التجربة.

رحاب هاني:
بعد الحديث عن الرسالة الإنسانية للموسيقى، كيف ترى جمهورك خارج لبنان؟ وهل أثّرت التجارب العالمية على هويتك الفنية؟

د. جمال أبو الحسن:
جمهور الموسيقى لا جنسية له، فالفن يتجاوز الحدود. في الخارج، يمتلك الناس وعيًا وثقافة موسيقية، ما يجعلهم قادرين على التفاعل مع الأعمال بطريقة أعمق.
التجارب العالمية أثّرت على كيفية تقديمي للأعمال وفهمي لقدرة الموسيقى على التواصل مع الناس بصرف النظر عن لغتهم أو ثقافتهم. النغمات السبع المستخدمة تعتمدها جميع شعوب الأرض، وهي لغة إحساس، ما يجعل الموسيقى وسيلة عالمية للتواصل والتعبير عن المشاعر، ويمنح الفنان ثقة أكبر بأن رسالته تصل للجميع.

رحاب هاني:
من ينظر إلى مفاتيح البيانو البيضاء والسوداء يشعر وكأن كل لون يحمل عالمه الخاص… ماذا تمثل لك هذه الألوان، وكيف تتحرك الأفكار والألحان بينهما في موسيقاك؟

د. جمال أبو الحسن:
النغمات البيضاء والسوداء مثل مفاتيح الحياة؛ كل لون يحمل إحساسه الخاص، وكل نقرة تولّد عالمًا من الأفكار. هي أداة لتوجيه الانفعالات الموسيقية، وتسمح للعقل بالتحرك بين المشاعر المختلفة، فتخرج الألحان وكأنها قصة مكتوبة بالضوء والظل.

الصمت جزء مكمل للموسيقى

رحاب هاني:
في هذا العالم الواسع، ما الذي يلمسه قلبك أو يراه بصرك ويبقى خفيًا عن الآخرين؟

د. جمال أبو الحسن:
أستمع إلى الصمت، فهو جزء مكمل للموسيقى. لولا الصمت، تتحول الموسيقى إلى ضجيج. الصمت ليس كالسكون بالطبع، بل هو الفاصل بين النغمات؛ المساحة التي تُبرز كل نغمة وتسمح لها بالتنفس. في الطبيعة، الأصوات موجودة دائمًا، لذا يكون الصمت نسبيًا.

رحاب هاني:
كيف ترى الفن والموسيقى كجسر يصل بينك وبين الحياة، الوجود وعالم الروح؟

د. جمال أبو الحسن:
أؤمن بأن كل إنسان يولد معه رسالة ومواهب محددة. الأعمال تأتي إلى رأسي، وأحيانًا يخيفني أن الوقت لا يكفي لإنجاز كل المشاريع. أؤمن بالتقمّص، وبأن المواهب تظهر منذ عمر صغير، وأن هناك امتدادًا لحيوات سابقة. لا يوجد فناء؛ الطبيعة تؤكد الاستمرارية، والفن هو الوسيلة التي تبقى وترتبط بالوجود والروح.

اترك رد

اكتشاف المزيد من نادي الكتاب اللبناني

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading