بقلم ملاك درويش
الحضور الكثيف للطّبيعة في ديوان “قليلٌ من النّاي” للشّاعر العراقيّ “جبو بهنام بابا”
——————————————————————————
الدّيوان محورُ الدّراسة اليومَ بعنوان “قليلٌ من النّاي” للشّاعر العراقيّ “جبو بهنام بابا”، يحمل بين دفتيه قصائد نثريّة، وهو يعدّ من الكتب الصّغيرة الحجم من المنظور العدديّ، غير أنّه مكثّف دلاليًّا بفضاء لا تحدّه سطورٌ ولا مقاطعُ شعريّة.
أوّل ما نستحضره عند الاطلاع على هذا النّتاج الأدبيّ هو تشييء البعد الموسيقيّ الّذي لطالما اعتدناه مجرّدًا لا يمكن إحصاؤه أو تحجيمه، وإسنادُ المصدر (قليل) إلى الآلة الموسيقيّة (النّاي) ما هو إلّا محاولةٌ لردم المسافة ما بين الطّبيعة الإنسانيّة المأخوذة بالمادّة، والطّبيعة الفنّيّة الآخذة بالانعتاق من ربقة الواقع ومتعلّقاته، وتاليًا تحيلنا هذه الدّلالة على عجز الواقع عن تأدية وظيفة الإشباع المادّيّة للبشر، فاستعانوا بالفنّ بديلًا مادّيًّا، يمكن العبورُ من خلاله إلى الآفاق الرّوحانيّة الأثيريّة.
ولم يكن اختيار النّاي اعتباطيًّا؛ لما لهذا الأخير من ارتباطٍ عميق بحالة الحزن المنبعثة من ألحانه.. لذا، نجد النّاي حاضرًا في كثيرٍ من القصائد قديمًا وحديثًا، وبلا منازع لترجمة شعور الحزن والفقد الإنسانيّين.
واللّافت في هذا السّياق الحضور الكثيف لعناصر الطّبيعة في مختلف نصوص الدّيوان، ومن الأمثلة عليها: الرّياح، الشّمس، السّواقي، الأعشاب، والأعشاش، البيدر، حجر، زرقاء اليمامة، الأغصان، الزّعفران، وغيرها…
وإذا أردنا تقصّي دلالة هذا التّكثيف لحضور الطّبيعة،فتجدنا نقف ممسكين بالعلاقة الّتي تربط الإنسان بالأرض على أنّها رحم الأمان الّذي انفصل عنه قسرًا عند الميلاد، وهو في رحلةِ بحثٍ دائمة عن البديل المكانيّ الّذي يعوّضه عنه، باحتساب الطّبيعة المعادل الموضوعيّ للأمّ؛ لما يجمعهما من عنصر الخصوبة والتّجدّد.
أضف إلى ذلك، تنجلي ظاهرة النّكوص إلى التّأريخ وذاكرته، كأن يقول الشّاعر في إحدى القصائد “ذاكرة البيدر، وتؤرّخ عيناك…”، ولعلّ هذا التّعبير هو استحضارٌ لحالة الفقد الإنسانيّة الملازمة للإنسان بعامّة، والعربيّ بخاصّة، فجاء الدّيوان برمّته ترجمانًا لطبيعة النّفس الإنسانيّة التّوّاقة إلى التفلّت من أصفاد الحاضر ، والتّحليق إلى أقاصي الوجود اللّامرئيّ.
أخيرًا، لا يسعني إلّا أن أقول: إنّ هذا الدّيوان هو مرآةٌ لتجربة شعوريّة غلّبت كفّة المعاني المكثّفة على الإيقاع والوزن، وذلك مجاراة للحركة الحداثويّة الّتي يشهدها الشّعر اليوم.
- أطول جملة في “البؤساء” للكاتب ڤيكتور هيجو - ديسمبر 23, 2025
- حوار مع الشاعرة رانيا مرعي - ديسمبر 23, 2025
- اللغة بين قلق الأكاديميين و هشاشة المستهلكين - ديسمبر 14, 2025
