Latest posts by Dr. Salam Slim Saad (see all)

بقلم يوسف طراد

إذا قرأت عند الفجر بديوان “همس الأماكن” لوليد عبد الصّمد، يستفيق الصّبح من غفوة الحالم على سرير لذّة الفكر، وكأنّ النور قد فاض من ثوب اللّيل، واستجمع همس العشق من جغرافية الأماني الغافية.

يحوي الكتاب قصائدَ، يقول كاتبها إنّها تأمّلات شعريّة. أمّا قارئها فيجدها تتماهى بإحساس مع المرأة خلال القسم الأوّل من الكتاب، ومع الوطن والوجد خلال القسم الثاني. ويصف الكاتب من خلالها الحبّ، محاولًا إدراك عالم الأمنيات.

لم يجعل الشّاعر المرأة مستعمرةً للرجل، ولم يحتكر القلم آداة له ليمارس سيادة حواسه على النصوص، والأشعار. فقد شاركته الأنثى فعل دمج الأحاسيس الذكوريّة والأنثويّة، من خلال حضورها في القصائد. لذلك خرجت الكتابة لديه من مرحلة الكلام، إلى عهد جديد صاغ خلاله علاقة رباعيّة بين الشعر، والمرأة، والوطن والقلم.

دنياه عمر، ولهفة وطهر حنين. وحياء يظلّل بسمة الوجود التي تلتحف بنعمة الشّوق: “تَمُرُّ أيامي كَسِحْرِ حُلْمٍ دفْينٍ/ أشْتاقُ رؤياكِ كَبَسْمَةٍ،/ أعيشُ العِشْقَ… بِلهْفَةٍ عُمْرُها سِنينٌ،/ مُغْرَمٌ يَهْوى الحَنينَ،/ أُدْرِكُ دوافِعَكِ وقَلْبيِ لهذا حَزينٌ.” (صفحة 45).

إذا كان قدّها ممشوقاً في جسد أهيف، لا تدركها الأبصار، ولا تلامسها العين البشريّة الّا بمِداد من خلجات الهوى، فقد جعلها الشّاعر أقرب إلى دبيب النبض في شِغافِ الود، لا تُسأل عن سر السّحر في رقة العينين، ولا عن تموجات الجسد الغض، الّا كسائل العطاشى إلى دمعة الماء، تجري في عروق الروح مثل لؤلؤ منثور على سحر الخدين: “على حَفافي الأنْهار رَسَمَتْ/ جَسَدَها خَيالاتٍ/ على صَفَحات الماءِ… رَقَصَت،/ أَحْلامي الجَميلَةُ مَعَها/ غنَّتْ نَغَمَ ليلٍ حائِرٍ/ كانَتْ شَرْدَةَ حالِمٍ… (صفحة 53).

شاعر، لم تستهوه فكرة التخاطب الكاذب، والمتملّق التي تجمع بين طياتها مكر السياسة، فقد وجد في الحقيقة لذّة خفية، وكان شعره سحابة في سماء الوطن لا تمطر إلاّ وجعاً وحسرة على الراحلين في السراب: “خَرَجتْ نجمة من سحبٍ/ تلبدُ سماء المدينة/ يكتبُ ضوؤها تاريخًا رحل بعيدًا،/ رجالٌ نسيَهم الزمانُ،/ ونساءٌ غادرهنَّ الجمال…” (صفحة 191).

حاك من خطوط الحبر عروسة لطفلة غافية في حضن القلق، خائفة من لمع البرق ودويّ الرعد، في وطن الظلام. ونحنّ لا نبرع سوى في امتهان الوداع، ولملمة أشلائنا المبعثرة مع كل رحيل، وذكرى وموت لا يرتوي من دموعنا… وبين الحيرة والتشتّت، كيف السبيل إلى ردم الهوة بين الوطن والحلم؟ وأي لعنة أصابت هذا الفردوس التائه بين أمم البرابرة؟: “ليلُ الغرابةِ/ سقفه دمعٌ غيورُ/ يروي ترابَ وطنٍ/ ماجتْ بأهوائِهِ/ العصور/ ويشدُّ إزرَ الأرضِ/ بعامودِ سماءٍ/ زلْزَلَهُ ارتعاشُ رعدٍ/ كسرهُ، ليهطلَ/ برقًا من نورْ…” (صفحة 183).

أيّها الشّاعر، القاطن في وطن الفينيق الّذي يحمل رسالة وفاء إلى مجدٍ لا يفنى، أطلب لنا الغفران من الوطن. فنحن غارقون في جماليّات الخيانة، وسحر العلاقات العسيرة، فوطننا أماتته كآبة الفقر، ونهشه الثراء المدقع. لذلك أضعناه في جغرافية الأمزجة المتخاصمة. لكنّ حبّك له مطهّم وبهيّ، وبقيت بيروت في قلبك مدينة الهمس الزئبقيّة الضوئيّة، عاصمة مدائن الحنان وحلم شعراء وطن الأرز، إلى سرمديّة الخلود: “…أُحبُّ فيها غُربَتي/ والأماكنْ/ أُحبُّ ليلَها والمساكنْ،/ أُحبُّ ما أكرهُ فيها،/ لأنها بيروت…” (صفحة 182).

انسكب البوح كغفوة الهمس، زكي النور، يأتلق جمال الأدب. فكلّ من يقرأ بديوان “همس الأماكن” يبقى في صحوٍ دائمٍ بانتظار الفجر الأرجواني. ليخبز مع وليد عبد الصمد من جمال الكلمات، خبز أسطورة وطن وحبٍّ وقيامةٍ وخلود.

اترك ردإلغاء الرد

اكتشاف المزيد من نادي الكتاب اللبناني

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version