بقلم رنا سمير علم
قراءة في كتاب ” همس الأماكن” للشاعر وليد عبد الصمد.
لوحة الغلاف لشوقي دلال
صدر في بيروت عن دار فواصل عام 2019
يتألف الديوان من ٢٢٠ صفحة في جزأين، الأول في الغزليّات وهو عبارة عن ٧٠ قصيدة والقسم الثاني وهو في الوجدانيات ويتألف من ٥٤ قصيدة.
في زمنٍ كثرَ فيه أشباه الشعراء، شعراء وسائل التواصل الاجتماعي، عودةٌ إلى الشعر الحقيقي، إلى القصيدة النثريّة بكلّ جمالياتها. مع الشاعرِ الذي كتبَ على الورق ما في قلبه وما يختلجُ بهِ وجدانه. ( ص٦).
الدنيا للشاعر هي مساحة ورق، وضعَ فيها شغفَ حروفه، كتبَ ترنيمةَ أحلامِه، بكلماته يرتحلُ إلى القمر، يتركُ يدَ الله تغسِلُ أحزانه وبالحبّ والدمع يغسِل الأوراق بقصائدَ يزداد فيها الجمال من واحدةٍ لأخرى تليها.
ربمّا هذا الإصدار الوحيد هو مسيرة كتابات وتأملات، حضّر لها إبن عمّاطور- الشّوف. أخذ الوقت الكافي ليصدرها بديوانٍ واحدٍ، من ربيع العمر، اصطفّت فيه العبارات تلو الأخرى بريشةِ فنّانٍ لا يتذوّق الشعر بل يُجيدُ كلّ عناصره.
شقّ الشاعر عباب البحر بأشرعةٍ من بحر أفراحه وأحزانه ويأسِه عبرَ قلمِه، أخذنا إلى قصورٍ من القصائد المزروعة على ضفاف الحياة، لتعزف الطيور ألحان الحبّ الحقيقي ويروي لنا عطش السنين في العِشق.
يملكُ الشاعر ثروةً من الألفاظ ويُجيد استخدام اللغة العربية بكلّ جمالياتها، ليكتب عن المرأة التي يعشقها، قصص حبّ وخيانة وشوق وخيبات.
يبدأ الديوان بالحديث بلا مبررات (ص١٨)، يكتُبُ لها ويصرخُ عبر القلم كي تتكلّم. يُفتّش عن امرأةٍ تُعيد دماءه إلى عروقها، يرتشفُ نبيذ القُبَل (ص١٢)، يُغازلها، يبحث عن الفرح، عن السعادة مع امرأة، حبّها سلَبَهُ شخصيّته ( ص٢٥) حين باتَ أسير عيونها، ( ص٣٣)، يتوقُ إليها مأسوراً بعطرِ يديها، (ص٤٧)، يرشده إليها قلبه، يصيران روحاً واحدة. روحٌ واحدة بتوأم جسدين ( ص٣٦).
بين يديها يصبح طفلاً ( ص٣٤) ، يفقدُ عقله وكيانه. حسناءٌ هي يرتشفُ نبيذَ عينيها (ص ٣١). بقربها يشتاقُ لامرأةٍ اختصرَتْ دنياه. هو الذي أبحرَ ثلاثين عاماً بين النساء (ص٣٩)، ضاعَتْ حروفه، ها هو يُلملِمُ فُتاتها ويرسمُ بها الكلمات.
هي المرأة مُعذّبته التي تبكي على رجلٍ أبكاها (ص٤٢)، يقول لها ” ابتعدي”. أمّا أنا فأقول للشاعر : لماذا تريدها أن تبتعد، وهي تسكنُ روحك ! يستحيلُ أن نفصلَ الرّوح عن الرّوح !
الشاعر مرهف الإحساس، قلبه بالدجى مفتونٌ (ص٤٣)، عصرَ من جسدها خمرًا لشفاهه (ص٤٦). لكم من هي تلك المرأة ؟ هي ملاك أم شيطان ؟
هنا نلاحظ التناقض باستخدام مفردات مختلفة بين الرجل (غريب، نواقص، طورتُ قلبي، لهفة، شوق، لذّة، غريزة) وبين المرأة ( نديّة، إنسانة، مرهفة، حب، ماء..). لذلك يُطالبها بأن تُعيد له إنسانيته.
الشاعر هو العارفُ بما يكتنِزُ صدرَ وقلب الرجل الشرقي بشكلٍ عام وما يُخفي من مشاعر أو خوف من إظهارها بسبب كبريائه؛ تنتهي دائماً بعلاقة غريزيّة مجنونة ! لذلك تنبتُ أزهار الاقحوان على مخدّته لكثرة ما رواها دمعاً. (ص٤٨).
المرأة له أولى الأمنيات (ص٥٢)، حين تعودُ إليه، يعودُ إلى الحياة (ص٥٣)، ولو تلعثمتْ الحروف في عينيها (ص٥٤).
هو عاشقٌ تائهٌ في بحر الجميلات، الحمراء، السمراء والشقراء، يبحثُ عن ذاته بهنّ (ص٥٥). بالرغم من كل ذلك حروفه ظالمة لم تفِ الزهرة حقّها (ص٥٧)، يأسره سحر بسمتها خمرًا يجود، هي الكل في دنياه، هي كل الوجود تُهرولُ إليها الروح قبل أقدامه (ص٧٢).
الشاعر يقول أنا أرض عذراء، صفحة بيضاء، في قصيدة جريئة جداً بعنوان جرّبيني (ص٦٢)، يبوحُ لها بسيلٍ من خواطره، بطريقة رومانسية، يذوبُ في أضلعها، يشتهيها ويعدها بأن يبقى عفيفًا دون خجل (ص٧٢).
الشوق خمرٌ جريح يقتلع، الشوق للتي تسكنُ القلب، هي ذاته، ولو لا يلقاها (ص٧٥-٧٦). رسمَها على سطح القمر حلماً وردياً لكنّه يخافُ من جهنّم الأنثى، لأنها بركان يثور وينفجر.
يقرأ من بسمة خدّي المرأة سطور الحب، يشتاقُ لها كل يوم. يعتبرها شجرةً مليئة بالثمر، تختمرُ بالحب. لو تدري اذا ما نزفت دمعة من مقلتيها لغيّر خارطة الكون (ص١٠٥).
يعيشُ المرأة، في حضنها، في قربها وفي بعدها، في حبّها وفراقها يكتُبُ أجمل القصائد مما يحتويه قلبه من الحبّ، يأخذُ من خدّها زاداً ومن ثغرها فاكهةً ويشتعلُ بلهيب الانتظار.
كما في الفصل الأول، نجد في الفصل الثاني قصائدَ بعنوان وجدانيات، هي بحقّ كذلك.
يعيش الوحدة مع المرأة وينتقل إلى الخوف على الوطن بما يفيض به قلبه على الورق بقصائد يُخيط بها لوحات الغرام، هو المقسّم لعشرات الفراشات (ص١٠٦)، يقول لا ترجموني لأنّ صخرة المعاني أقوى من الأحلام (ص١١٦-١١٧). يعترف بأن الحبيب يغفل هفوات حبيبه. ونجد قصة حب الشاعر أو الرجل عموماً عبر قصيدة “العشق ” في الصفحة ١١٨، تختصر قصص حب الرجال العاشقين.
كما هو يعشقُ الحبيبة ويكتبُ لها، هو أيضًا يكتُبُ عشقه لمنازل القرميد، لقريته دون أن يُسميها، لجنود جيش لبنان الذين يقدمون الدماءَ من أجلِ الوطن ولو تذهب دماؤهم هباءاً. يعودُ إلى الجذور يحافظُ عليها لكن بأسلوبٍ عصري.
أما ليل بيروت مدينته فهو الحياة، يُضيئه نور الثقافة والابداع، يحبّها ويحنّ إليها (ص١٢٤ و ص١٣١). وليس بعد بيروت حبيبة (ص١٦٧).
يعتبر أننا تائهون في المصير، أحلامنا صارت سراباً في بلدٍ لا نستطيع فيه التغيير سوى بأقلامنا، نحن الشعب الذي يمشي خلف الزعامات ! أصبح الوطن شعاراً على وثيقة سفر !
يطلبُ من أصحاب الأدعية كفّها ويدعوهم لترك الخالق !
قطراتٌ من الدموع ضيّعها أو خبّأها خلف دخان السجائر (ص١٣٣)، يُصارع وحيداً الحِبر ويعانقُ الصمت. مسيرته شقاء، شريدٌ يراقصُ الوحدة، عصفور هو يُغرّد الحريّة، يروي القمر أصدقَ الأسرار ويكتبُ رسائله.
فصلٌ من الشذراتِ ومن مشاعر فاضتْ كالنهر الذي لا ينضب على أوراقٍ متناثرةٍ كثيرة، بين دروب الألم، حيث يقرأ تاريخه ويبكي الضياع عبر صفحاتٍ دون كلام (ص١٦١).
صحيح أنّنا نأتي إلى هذه الدنيا ونرحلُ لكن الشاعر يبقى لا يُكلّل بالنسيان ولو ينتظرنا الموت !
في النهاية يقول : ” أترانا نكتب ؟ أم نقرأ ؟ ” ( ص١٧٣). وأنا أقول للشاعر أترانا نقرأ لشاعرٍ عاشقٍ مجنون بحبّ امرأةٍ لا تعرف الحب ؟
أترانا نقرأُ حب الوطن أم خوفاً على الورق ؟
هل هي اعترافات وليد عبد الصمد الإنسان، صاحب القلب المليء بكلّ هذا الحب والحزن معاً ؟
- الحب يُغذّي قلمه والحزن والخوف على المصير يسلبه حب الحياة. عاشق لم يصل إلى ميناء العشق سوى بأحلامٍ وذكريات وحروف كُتِبتْ بماء القلب النقيّ.
ماذا بعد هذا الديوان ؟
أوليس في القلب الكثير من البوح الذي نحتاج أن نضعه على شذراتِ الورق، لتفيض حبّاً وحناناً وجراحات وآمال وأمنيات وإخفاقات وانتصارات ؟
لا تسكتْ يا شاعرنا، إبقَ ضمير المظلومين، وقلم المحرومين وحرف اليائسين وسيف كلمة الحق أمام الظالمين. سلاحك يفتكُ بالمعتدين على أرض الوطن، وسلاحك قلم ينبضُ بحبّه.
دعْ قلمك يكتبُ قصائدَ نثرية، من مزهرية ألوانِ قلبك المُشتعِل بالحب، للحبيبة وإن غابتْ وللوطن وإن خسِر.
لا تنتظرْ يا وليد فنحن انتظارٌ لكلّ حرقة، وشوقٌ لكلّ شمسٍ، لكلّ بسمةِ ثغرٍ تكتبُ فيها، لكلّ مركبٍ ولو من دونِ شطآن (ص١٧٩).
أنتَ تعلمُ جيّداً أنّ بعد كل غروبٍ، شروقٌ. فما عليكَ إلّا أن تُطلقَ الصمتَ بوحاً، شدواً، هجراً، غزلاً، بعُدّتِك المعهودة : فنجان قهوة- قلم – ورقة، كتاب وسيجارة (ص١٢٨). لا لتروي الآهات فقط بل لتكتبَ حياةً، حروفها من ذهب الحبّ الحقيقي، على الورق تُسْكَبُ. أمًا حانَ اللقاء؟
أهطلْ يا مطر السماء حبّاً على أروقة عمر الكاتب فيتحوّل بريقاً من نور الحروف وأنوار الشعر والكلمات. لو قرَأ الشعراء ديوانك سوف يُفكّرون ألف مرة قبل أن يهمسوا لنا في أماكن تُشبِه همساتكَ في همسِ الأماكن.
٧ آذار ٢٠٢٣
- أطول جملة في “البؤساء” للكاتب ڤيكتور هيجو - ديسمبر 23, 2025
- حوار مع الشاعرة رانيا مرعي - ديسمبر 23, 2025
- اللغة بين قلق الأكاديميين و هشاشة المستهلكين - ديسمبر 14, 2025
