- سحر الحضور - مارس 18, 2024
- بين شقاءٍ وحب - يناير 30, 2024
- صفقة القرن العشرين - يناير 23, 2024
بقلم يوسف طراد
“السخرية في مسرح أنطوان غندور” لسوزان الخوري مخايل عكاري: استشراف الأقدار
حضنت سوزان عكاري المسرح اللبناني، ثقافة وفنًّا من دون حدود، في دراسة بعنوان “السخرية في مسرح أنطوان غندور”، صدرت ضمن كتاب عن المؤسّسة الحديثة للكتاب، عام 1991.
364 صفحة، ضمّت ثلاثة أبواب: الباب الأول “السخرية فنًّا وتعبيرًا”، الباب الثّاني “المسرحيّ اللّبنانيّ السّاخر أنطوان غندور”، والباب الثّالث “خصائص السخرية لدى غندور”.
استندت الباحثة إلى كمٍّ كبير من المصادرَ الموثّقة، أهمها مؤلفات الكاتب المسرحيّة والتلفزيونيّة، و21 عملًا لأعلام المسرح والأدب والفلسفة، وثمانية كتب مترجمة عن اللّغتين الفرنسية والإنكليزية، وثماني دوريّات صدرت في الوطن العربي منها “عالم الفكر” الصادرة عن وزارة الإعلام الكويتية، و21 مجلّة مختصّة بالثّقافة والفنون، وتسع جرائد محليّة منها “النهار”، “الجمهورية” و”لسان الحال” و10 مراجع أجنبية، و9 مقابلات إذاعيّة وتلفزيونيّة شخصية، عائدة لأنطوان غندور وعدّة ممثلين مسرحيين، إلى ندوتين حول التلفزيون والمسرح أجريتا مع الممثلين إحسان صادق وأنطوان كرباج. كما وردت خلال البحث، استشهادات بمقالات ومقابلات ونتاج أدبي، لـ167 من الأعلام.
صيغ هذا البحث بموضوعيّة متقنة، لم تهمل الباحثة في الباب الأول، أيّ حدثٍ صغيراً كان أم كبيراً يتعلق بالسّخرية، اعتبارًا من القرن السادس قبل الميلاد، حيث وردت خلال السّرد، معلومات عن أقدم أنواع السّخرية الهازلة، العائدة إلى أعياد إله الخمر (ديونيسوس)، وصولًا إلى العام 1991 تاريخ صدور الكتاب.
السخرية
جمعت سوزان عكاري ضمن هذا الباب، مختلف أنواع الموجات الفنيّة المتعلّقة بالسخرية، والتي شملت هذا الفنّ من جميع نواحيه، فعرّفت بأنواعه وأشكاله القائمة على نقد المجتمع المدني والسياسي والديني، وفضح عيوبه، كما أدرجت السّخرية في “أبواب حسب الغاية التي تذهب إليها” كون وظيفتها تندرج في إفساح متنفّس للإنسان، “إذ تقيم محاكمة طريفة للمظاهر المنحرفة، جاعلة منها موضع تهكّم مزر، ومثارَ ضحك هازل يأتي بمنزلة عقاب اجتماعي”. وتوالت محاولات الباحثة للإجابة عن كلّ ما يدور حول السّخرية، فجاءت تفسيراتها متمازجة في محاولة إعطاء حل نهائي، أو شبح خلاص.
تعبيرًا عن العبث والعقم، والسخف، والمرارة، والتشتت، أدرجت عكاري شخصيات ومشاهد تمثل من تنبع هذه الأشياء من صلب تكوينها، فقد التصقت لغتها بالمعنى الذي تؤدّيه. عن رواية (دون كيشوت) جاءت معانيها أمينة لوظيفة السّخرية، ثقول: “… أنّ السخرية وروح الفكاهة التي تسود العمل بأسره، قد استطاعت أن تحطّم الكثير من الأصنام”.
لطالما تنبأ الأدب بمستقبل البشرية، هل ما قالته سوزان عكاري منذ نحو ثلاثة عقود من الزمن، عن المسرحي الإيطالي لويجي بيراندللو الذي قدّم شخصيّة الطبيب بطريقة تهكّميّة كاريكاتوريّة، ينطبق على فشل الجهود التي تكافح فيروس (كوفيد19)، وجهلنا بالمدّة الزمنية لهذه المعركة مع أصغر مخلوق ميكروسكوبي؟ “لقد فشل الطب في الحفاظ على الحياة، ففشل بذلك العلم في حمل الخلاص للإنسان. فهل يقوى الفنّ يا ترى على إهدائه خلودًا يوقف مأساته العابثة؟”.
من يقرأ في هذا الباب، مهما كانت ثقافته، يحس أنّ النصوص تعبّر أحسن تعبير حول ما يجري في يومنا هذا على وسائل التواصل الاجتماعي. فكثرة الجوائز التي يحصل عليها الأدباء والكتّاب حديثو النعمة في حركة الأدب، بمجرّد اشتراكهم في ندوات ثقافيّة عبر منصّات (زوم) التابعة للمواقع الإلكترونية، تعيدنا إلى ما كتبته الباحثة عن مسرحيّة “شهاب” للمسرحي (ديرنمات)، “أمّا مسرحية “الشهاب” فتخبئ مَيْلًا إلى السخر من الأدباء الذين يحصدون الجوائز، فيزيدهم نجاحهم غرورًا وابتعادًا عن هموم الإنسان”.
أنطوان غندور
أمّا عتبة الباب الثاني الذي يعرّف بشخصية المسرحيّ اللبنانيّ السّاخر أنطوان غندور، فيتضمّن جولة وافية على المسرح اللبناني، اعتبارًا من تجربة مارون النقّاش (1817- 1855) وصولاً إلى (الشانسونيي) التي اشتهرت خلال الحرب اللبنانيّة. شرحت الباحثة بإسهاب خصوصيّة هذا المسرح، وتعدّد اتجاهاته، وتمازج ثقافاته، وأنواعه: سياسيّ، ذهنيّ جماليّ، مسرح شعبيّ، حكواتيّ، شانسونية وايمائي. وورد ضمن البحث خلال حديث لأنطوان غندور حول تاريخ المسرح في لبنان، قوله: “بحيث أن شركة ترام بيروت قرّرت ذات يوم، تسيير حافلاتها ليلًا ليتسنى للناس حضور العروض المسرحية، ومن المعروف أن تلك الحافلات لم تكن تعمل ليلًا في ذلك الوقت”.
أمّا عن تعدد الاتّجاهات السّياسية والثقافية والاقليميّة التي تركت “كوكتيل” روائحها على جدران وأرصفة العاصمة الحائرة، فانتعشت أعمار الشغوفين إلى المسارح، كأنّها على وعد مع أساطير طال أمدها، وحان موعد تحقيقها كما اشتهتها، قبل وخلال وبعد عاصفة 1975 التي كسرت الأرض، وأنزلت لعنات السماء، لترتمي في أحضان الوطن، فقالت عكاري: “وبنتيجة الانفتاح السياسي والحضاري، أصبح ذلك الوطن الصغير يستورد البضائع والصراعات الموسميّة، جنبًا إلى جنب مع التيّارات الايديولوجيّة، لتضّج بيروت بألوان فاقعة بتناقضاتها، صارخة بتباينها”.
لشدّة ما كان لبنان فرِحًا حين غنّاه مسرح الرحابنة، بأغنيات من التراث مفعمة بالإحساس الراقي قالت عنه عكاري: “وهو أينما يحلّ يثير الدّهشة والسؤال، متى يغيب ينشر الأرق والحنين.”
عندما نقرأ ما كتبته الباحثة، ضمن فصل أنطوان غندور الإنسان والكاتب المسرحي، عن الطفل الذي لم يفارقه يومًا: “فالفنّان هو عاشق دائم للحياة، للكون، للطبيعة، وللأشياء. إنه إنسان متّحد بالطفل الذي فيه وبالإنسان الناضج الذي تكوّن داخله، أنه يتعامل بنفسه الكليّة مع النّاس من حوله، فحين يحبّ، يحبّ نفسه الكليّة”، عند هذا القول يحضرنا قول لدوستويوفسكي: “داخل كلّ إنسان منّا طفل يتوق إلى اللعب”.
فاض الحزن فرحًا فوق خشبات المسرح، فقد مزجه غندور بقليل من العبث وكثير من الحنكة والفّنّ والتأمّل والحبّ والحياة، “أن حزنه كبير يدهمه في أوقات صعبة، ولا حاجة به إلى أن يخفيه كما يخفي اللصوص المحنّكون جواهرهم المسروقة لأنه يعتبره ملاذًا للفرح، للعمق والإنسانية”.
دوافع غندور لفنّ الهزل والسّخرية تكمن في نزع الحزن عن العيون، وعدم ترك الحقد يتسلل إلى القلوب، لأنه مفطور على العطاء والحبّ والابتسامة، فكان حائط مبكى يتّكئ عليه العابرون إلى الفرح ذارفين دموع الأسف على الوطن، “فقد ورث المواطن الرشوة، فساد السّلطة، الجرائم، الضرائب، السّمسرة… لتنخر أركان الدولة الموروثة ومن يستطيع لهذا الواقع الشاذ نقدًأ”.
كان حبّه لعمله ارتعاشة عقل حتّى الوعي، وفكرة ناريّة أخترقت ظلم الرقابة، فاجترح معانيَ أخرى من دون عناوين، “واستمرت الحرب، بتحوّلاتها وإفرازاتها الشّاذّة، تطرح نفسها على وعي الكاتب، ليصوغ من مناخها المتقلّب عقود سخرياته، ينسجها بحذر وترقّب هذه المرّة… كان عنف البندقية بديلًا من ديموقراطية الرّقابة، مما اضطره إلى العودة مرّة أخرى إلى منابع التّراث والتّاريخ، يختبئ وراء قلاع الماضي، ليهذّب نواتيء الحاضر…”.
الحنين الغافي
في كلّ مرّة يضرب غندور على وتر الحنين الغافي، ليوقظ جرحًا غائرًا من هلوسات، على وتر الصمت المتوارد في عيون مرايا تعكس إيماءات فصول أليمة لم ترحل، “لقد جاءت سخريات (غندور) لتعزف على وتر الإنسان النّائم داخل كلّ شخص، أرادت أن تنبّهه إلى واقعه فاستمدّ ملاحظاته من واقع العصر، الماضي في فقدان إنسانيّته”.
لم يكن صخب سخريته ساذجًا، بل اختار الشخصيّات بدقّة لتعبّر عن منطق يرى الأشياء كما هي، فكانت أقنعة شفّافة لتوضيح الواقع، “إن جنون نماذج (غندور) ينتمي إلى المنطق، بقدر ما ينفلت من الواقع المُعَقْلن، يحارب الجمود والقواعد التي تكّبل الإنسان فيدقّ باب الحلمفي التّوق إلى عالم أفضل”.
استهلت الباحثة الباب الثالث من الكتاب “خصائص السّخرية لدى غندور” بعرض مفصّل لملامح هذه السّخرية كما عرضت تلخيصًا وافيًا لجميع مسرحياته التي جرت قبل الحرب الأهليّة وبعدها، ملمّحةً إلى تصاعد لهجة التهكّم القاسية للسخريّة، كلّما أصبحت المجتمعات معرّضة أكثر للسّقوط من جراء ممارسات المسؤولين، “إنّ (غندور) يسوق هذه المشاهد، ليسخر بها من الفوضى، والرشوة، والاستغلال، من تسليح أناس ينعدم لديهم الوعي، يقوم السّاسة بحماية جرائمهم”.
ما أشبه اليوم بالأمس، فمن لا يغتسل من حزن الماضي الذي لم يتّسع له التاريخ، يبقَ أسير من كبّل الأمس وقيّد المستقبل، “تنتهي الجلسة، يخرج النوّاب، مثل العادة، يتحلّق حولهم أهل الصّحافة، يقطفون الزيف من أجوبتهم، وتتكرّر المفارقات السّاخرة: اهتمامات وقضايا، تتناقض مع حاجات المواطنيين”.
لم نعد نملك إلّا الحلم، والأمل باستخراج النفط. لماذا سرقوا منّا هذا الحلم، وهو الشيء الوحيد الذي لا يمكن لأحد أن يسرقه، كمن باع جلد الدّب قبل اصطياده؛ “فيعجب حسن مندهشًا ويقول مستنكرًا (مع أنهم بيقولوا زيت العرب للعرب) في إشارة ساخرة إلى سوء استعمال سلاح النفط”.
لماذا نحتاج كلّ مرّة إلى بحرٍ من الدماء، ليستيقظ ضمير الحكّام؟ وإلى متى سيبقون يجرّون هزائمهم بحبال قهر المواطن؟ “يتخطى الواقع إلى الحلم مع (بونابارت) لتصدمه الخيبة كل مرّة، فالمواطن المقهور، هو وجه للحاكم المهزوم”.
جاءت سخرية غندور، في زحمة الصّدق السّاكنة كيانه دومًا، من خلال شخصيّات مهلهلة ألبسها أقنعة. ومن ضمن المشاهد المثيرة للسخرية “أضاف جديدًا إلى المسرح اللبناني، عن طريق خلط أنواع جديدة: رمزيّة، عبثيّة، واقعيّة، تلتحم متوحّدة ببساطة قلّ نظيرها، لتعبّر عن مأزق سياسي، وتحاكم أهل الحكم تحيلهم مجانين في محكمة التاريخ”.
ليس في الأمر خدعة، إنّما مجرّد معرفة بنقاط ضعف الوطن وهي عديدة، فالذين يدّعون الوطنيّة ظلّوا مجرّد دمى ومجرّد أشباح مسيطرة، تتحرّك في جغرافية مُغتصبة، وهذا واضح في سيناريو مسرحية “جمهورية الشاطر حسن” ولذي عبّرت عنه عكاري بالتالي: “ينتقل إلى سوق النخاسة حيث يتعرف إلى شقيقة له تدعى (وطنيّة) تباع وتشترى وتهان، ويرتكب بحقها كلّ منكر”.
عندما تصبح الحدود الحكاية، والدمعة التي تفيض، والجرح الذي ينزف، وعندما لا تستطيع هذه الحدود حرمان أسراب أعداء الوطن من العبور، تلك الأسراب التي تأكل غلال لبنان وتبيض في بلدان أخرى، ولا حرس يحميها من غربان النّعيق في الأجواء والأهواء، يخطّ غندور مسبقًا رسالة تصلح لكل فصول حياة الوطن، من على خشبة مسرحيّة القبقاب: “احتشمي حاج مشرّعة أحضانك متل الحدود الفالتة”.
لقد وصلنا إلى ما حذّرنا منه غندور، بشهادة هؤلاء الذين نبّهوننا من الوصول إلى الهاوية، “إن المتتبّع لمسرح (غندور) يتبيّن بوضوح اللّون السّاخر الذي يطبع أعماله منذ بداءاتها في أواخر السّتينيات، وحتّى آخر عمل قدّمه، لقد أراد أن ينبّه إلى خطر يتهدّد المجتمع بكل تركيباته السياسيّة، الاجتماعيّة، والاقتصاديّة”.
هل تحدّث غندور عن القانون النسبي للانتخابات النيابة، قبل إقراره بعقود؟ وهل ألمح إلى التحالفات غير المنطقيّة التي فرضها، والتي دلّت بوضوح على هوس الطبقة السياسيّة الحاكمة بالكراسي رغم خلخلتها؟ “الشعب يللي مثلنا، بيضم أربع سنين مثلنا، ولما بتجي الانتخابات بيصير ضدنا، ولما بتخلص الانتخابات بيرجع يصير معنا ومثلنا”.
وهل تنبأ غندور أيضًا بعبوديّة الكتل النيابيّة الكبيرة، قبل تشكيلها بعقود؟ فمن يعتق النائب من عبوديّة كتلته، إذا كان يريد الإفصاح عن رأي مغاير لرئيس الكتلة أو رأي المؤتمن عليها؟ فيلزم من يمثّلهم بقرار كتلته حتى ولو كان هذا القرار خاطئاً، “من كتر ما هو ملتزم… راح يلزمنا”.
أدّى غندور رسالته بكلّ أمانة، ولم يكتفِ بالنتيجة الّتي وصل إليها، حيث رثا بسخرية الوطنية التي أُجهضت، ولم يسدل الستار على وجوه التصقت بأقنعتها وألِفتها، حتى أصبحت دستورًا له دالة يصعب تجاوزها ويُمنع الالتفاف إلى مدلولها. فالأقنعة الخاصّة، الشّفافة، التي ألبسها لشخصيّات مسرحياته منذ الستّينيّات، لم تخفِ النزيف الحادّ، وقد دلّت على الجرح بوضوح، لكن لا طبيبًا ولا سياسياً ضغط عليه بإصبعه. إنّ الدّم ما زال يسيل في نزيف مستمر منذ أعوام بعيدة، ولتاريخه لم يتوقف صراع الأمم الّذي جعل من بيروت طنجرة لطبخ مخططاتها.
إذا كانت مسارح السّخرية التي لقيت رواجًا في لبنان، بدأت تتجه أنظارها بشراهة إلى النّقد اللّاذع للعمل السياسيّ، في تضمينها الإثارة السّاخرة، وجعلت المتفرّج سعيدًا أن يراها وهو مطمئن في مقعده، وقلبه ممتلىء بغبطة تشريح مآسيه، فأنطوان غندور وجد الأبطال الحقيقيين للمسرح مع اسمائهم، والصور المعبّرة التي وضعهم بها في لحظات بالغة الخطورة والمرارة والتّحدي.
أهمية مسرحه
وإذا كانت أهمية مسرح غندور “في نقل معاناة النّاس ورؤياهم، إذ يمنحهم ضحكة في زمن الحرب، ينتصرون بها على الواقع، وتنير أمامهم الضوء ولو شاحبًا، في درب انتظارهم الطويل”، فكتاب الدكتورة سوزان عكاري الذي طبع عام 1991 منح الأدب بابًا مشرّعًا لدراسة المسرح، فكان من أولى الدراسات التي ألقت الضّوء على علم المسرح وفنّ السخرية، وقد اعتُمد مرجعًا لعشرات طلّاب الدكتوراه الذين أعدّوا دراسات عن المسرح أو الفن السّاخر، في لبنان والدّول العربية.
فتحت سوزان عكاري، الأبواب الموصَدة بين فصول الوطن، لننزوي في ثنايا مآسينا آسفين، وكأنّها استشرفت أقدارنا الضّالّة على غفلة منّا، وتركت لنا فسحة أمل بفجر وطن قادم على مهل.
