Latest posts by Dr. Salam Slim Saad (see all)

حوار أجرته عبير عربيد مع الأستاذ مازن عابد عن فكر والدته د. نازك أبو علوان عابد

“حضور رغم الغياب”

عندما أردت أن أبدأ بهذه المقدّمة، احترت باختيار لقب يفيها حقّها فهي قد أعطت رقيّا وقيمة لكلّ لقب حملته، الكاتبة، الباحثة، الفيلسوفة، المتصوّفة، المربّية، والقدوة لكل من عرفها.
1-س- عبير عربيد: المهندس الأستاذ مازن عابد، ابن المرحومة د. نازك أبو علوان عابد، نعرف أنّك من الأقربين إلى فكر وروح الوالدة. هل يمكنك أن تعرّفنا إليها باختصار؟
ج- مازن عابد:
هي الإنسانة المناضلة، الأم، المربّية، الباحثة عن الحقيقة في جوهر الإنسان، والمترفّعة عن كلّ الماديّات لتكمن سعادتها في العطاء والانسجام فيما حولها ومع من حولها. لا أبالغ إن قلت هي عدّة نساء في امرأة واحدة، حيث كانت تجمع بين التّعليم والتّوجيه والعمل المنزلي والنّشاط الاجتماعي والفكري والثّقافي من دون تأفّف أو تذمّر. ودائما المحبّة عندها نهج حياة.
2-س- عبير عربيد: د. نازك مواليد 1937، وكما نعلم هي ولدت في قرية جبليّة محافظة، هل واجهت تحدٍّ لمتابعة دراستها الجامعيّة في ذلك الحين؟
ج- مازن عابد:
كلمة حقٍّ تقال أنّها تربّت في منزل منفتح اجتماعيّا، وكان لوالدها عارف بك بو علوان، الّذي كان وجيها ومعروفا في بلدته الباروك، كان له الفضل الكبير في تشجيعها واحتضان طموحها، حيث كانت متميّزة منذ الصّغر في حبّها للعلم وللثّقافة.
3-س- عبير عربيد: في ثورة 1958 كانت من الطّلّاب المناضلين مع الحزب التّقدّمي الاشتراكي، أخبرنا عن إنجازاتها في تلك الفترة، والتّحديات الّتي واجهتها من الأهل والمجتمع بشكل عام كونها امرأة. وهل أثّرت هذه الشّخصيّة الثّائرة على تربيتها لكم فيما بعد؟
ج- مازن عابد:
في الحقيقة، كانت بداية نضالها قبل العام 1958، ابتدأ مع ما سمّي بالثّورة البيضاء بوجه عهد بشارة الخوري في ذلك الوقت، ولا ننسى مهرجان الباروك حيث كان لها رغم صغر سنّها مآثر لا تُنسى، ما زالت متداولة حتّى اليوم.
4-س- عبير عربيد: اختارت كمال جنبلاط كموضوع لرسالة الدكتوراه في جامعة فيرفاكس في الولايات المتّحدة الأميركيّة، هل اختيارها له كان بعد معرفتها الشّخصيّة به، أم أن بحثها أدّى إلى معرفته؟ .
ج- مازن عابد:
شكّل المعلّم كمال جنبلاط مرجعا فكريّا وروحيّا وسياسيّا وثقافيّا لها طيلة حياتها، وقد لعب القدر دورا في جميع المراحل، وكأنّه يهيئها لنشر هذا الفكر وهذه الرّسالة، فوالدها كان من أوّل المنتسبين للحزب التّقدّمي الاشتراكي، ومن الدّاعمين لتأسيسه، وتأهّلت فيما بعد بابن المختارة فوزي عابد (وجار قصرها) وأعتقد أنّ رمزيّة المختارة ساهمت بهذا الارتباط.
وممّا لا شكّ فيه أنّ مبادئ كمال جنبلاط لاقت انسجاما في نفسها يحاكي رؤيتها ونهجها الإنساني، فكان الاكتمال. وللأمانة رسالة الدّكتوراه مرتبطة بحلم أو رؤيا شاهدتها في 14 آذار، أي قبل يومين من استشهاد المعلّم، حيث شاهدت شجرة الجوز الكبيرة الّتي كانت تتوسّط ساحة قصر المختارة في حلمها وقد جرفتها السّيول، لتخبر والدي في الصّباح بحلمها وتقول له بقلق “حمى اللّه المعلّم” ولهذا كانت تسمية التّرجمة العربيّة لكتاب رسالة الدّكتوراه “شجرة الجوز”
5-س- عبير عربيد: كانت أوّل من حضر عند استشهاد كمال جنبلاط، أخبرنا عن الحادث وتأثير هذه الصّدمة عليها، وكيف تعاملتم أنتم كأطفال مع وضعها النّفسي في تلك الفترة؟
ج- مازن عابد:
هذه الواقعة المفصليّة في حياتها هي أيضا من مفارقات القدر الّذي كنت أتحدّث عنه، وكأنّه مكتوب لهذا الدّور أن يكتمل، حيث أنّها كانت بطريق عودتها من عملها في التّعليم في صيدا، بسيّارة أجرة، ولمّا شاهدت سيّارة المعلّم مركونة إلى جانب الطّريق، طلبت من السّائق التّوقّف، وكانت الفاجعة في رؤية المعلّم مستشهدا في سيّارته.
لا شكّ أن فقدان كمال جنبلاط كان له وقعا كبيرا جدّا عليها، فكانت تتّجه للصّلاة والتّأمّل عند ضريحه، بعد مراسم العزاء، مع الإشارة إلى ما أعقب الاغتيال من ردّة فعل واندفاع جماهيري كانت تتفاعل معه حيث كان الانطباع العام أنّ المعلّم رحل جسدا، لكنّه باقيا فينا وسينتصر. ونحن كأطفال جزء من هذا الجو الحماسي الطّاغي.

6-س- عبير عربيد: عانت كثيرا من المجتمع، من الظّروف، ومن القدر.
ما هي أكثر معاناة أثّرت بها، وكيف تعاملت معها؟
ج- مازن عابد:
المعاناة بالنّسبة للنّفوس المتميّزة هي كالنّار بالنّسبة للمجوهرات، تصقلها لتتألّق، وكانت معاناتها من أكثر من جانب، منها ما هو من صنع القدر ومنها من المجتمع، وقد شكّلت وفاة ابنها البكر في حادث سير مؤلم وهو في السّادسة عشر من عمره أبرز تلك المعاناة. لكنّها تعاملت مع الموت بصبر وثبات “ولم تنزوِ في ثياب الحداد” فأصبحت تناجي ابنها الفقيد وكأنّها تناجي ملاكا في السّماء. يكفي أن نتذكّر عنوان مقالتها ” شموع إلى الشّراع الأبيض” لتتّضح الفكرة. واستمرّت بحياتها تقدّم كلّ ما يلزم لنا ولمحيطها.
7-س- عبير عربيد: “إلى الّذين عاشوا الحياة منتصرة بالمحبّة، عامرة بالسّلام اندماجا بالوجود وجدا ووجدانا… إلى كلّ إنسان ومعه، أنا صلاة… لصيرورة متحقّقة” هذا كان إهداء كتاب “المزار”. من الإهداء تبدأ الهداية ويظهر التّصوّف والإيمان والتّجلّي بشكل لافت. حدّثنا عن ارتباطها الرّوحي بالخالق وبالدّين، علما أنّها لم تكن ملتزمة دينيّا.
ج- مازن عابد:
مفهوم الدّين عند د. نازك مفهوم راقٍ ورائع، يشبه إيمان المتصوّفين، أولئك الّذين شقّوا دربهم نحو اللّه مباشرة لا يحتاجون وسيط ولا قوانين وهذا هو الجوهر الحقيقي للدّين، ولا يتعارض مع إيمانها العميق بمذهب الموحّدين الدّروز، أهل العقل والحكمة. أليست الأديان جميعها تؤدّي إلى اللّه؟
كانت تردّد على مسامعي دائما أنّ الكثير من الأمور المعتمدة دينيّا هي متوارَثة وليست من صلب الدّين، كاللّباس مثلا وسواه.
8-س- عبير عربيد: تأثّرت بالقضيّة الفلسطينيّة، وكان لها مواقف تعاطفها الخاص مع الفلسطينيّين، حدّثنا عن هذه الفترة.
ج- مازن عابد:
القضيّة الفلسطينيّة قضيّة حقّ، ومن الطّبيعي أن تتعاطف مع هذا الشّعب المضطّهد ومازال يناضل. ومن خلال تعليم مادّة الفلسفة لصفّ الثّالث ثانوي في صيدا، تعرّفت عن قرب إلى طلّاب فلسطينيّين وكانت معجبة بطموحهم رغم الأوضاع الصّعبة الّتي يمرّون بها، ولم تكن تأبه بعناء الانتقال من المختارة إلى صيدا في سبيل تعليمهم.
9-س- عبير عربيد: كانت د. نازك من أولى المنتسبات النّساء إلى الحزب التّقدّمي الاشتراكي، ولكنّها كانت بعيدة كلّ البعد عن التّعصّب الدّيني أو السّياسي. كيف استطاعت أن تكون متوازنة وخاصّة في ذلك الزّمن؟
ج- مازن عابد:
كان للنّضال في حينه نكهة مختلفة، ومن المعروف عن الحزب التّقدّمي الاشتراكي أنّه ليس طائفيّا، لذلك خاضت النّضال في صفوف الحزب دفاعا عن العمّال والفلّاحين والفئات الحرّة، ومن أجل مجتمع يسوده الرّخاء والعدالة الاجتماعيّة، ومن أجل مواطن حرّ وشعب سعيد، فإيمانها برسالتها وإنسانيّتها الخالصة طغيا على أي اعتبار آخر.
10-س- عبير عربيد: كتبت العديد من المقالات وأصدرت:

  • شجرة الجوز (المعلّم والقائد)، وهو ترجمة لأطروحتها الّتي نالت عنها درجة الدّكتوراه، ويعتبر أوّل سيرة ذاتيّة لكمال جنبلاط ينشر باللّغة الإنكليزيّة
    -صلوات في هيكل الرّوح.
  • المزار.
    -أين أنت يا صفاء.
  • 365 يوما مع كمال جنبلاط.

أيّ كتاب كان الأقرب إلى قلبها، ولماذا؟
ج- مازن عابد:
من الصّعب تحديد ذلك، فلكلّ كتاب مكانته وقيمته الخاصّة. الكتب الخاصّة بكمال جنبلاط تأخذ طابع الأرشفة ونشر فكره، طبعا من خلال فهمها العميق لمبادئه. أمّا الكتب الباقية، فقد تسنّى لها المجال لتتسامى تحليقا بروحها في فضاء الوجدانيّات والمشاعر، وكأنّها تستعيد محطّات حياتها من فرح وحزن وتفاني وصلاة. بالإضافة إلى مآثر عميقة من الحياة العاديّة الّتي يعيشها كلّ منّا، حيث تسلّط الضّوء على إشكاليّات المجتمع والإنسان بروح إيجابيّة دائمة وثورة راقية على كلّ تقليد خاطئ.

11-س- عبير عربيد: ماذا علّمت الحياة نازك أبو علوان عابد؟ وما العبارة أو الحكمة الأهم الّتي تحملها من المرحومة؟
ج- مازن عابد:
علّمتها الحياة أنّ السّعادة تتحقّق بالمحبّة والعطاء، في الخير والعطاء إرضاء للذّات كما للآخرين، وحينها تنسجم الذّات الإنسانيّة في الكون المحيط، فتنعدم كلّ أنا بمعناها الضّيّق ” الأنا مصدر كل دنس” كما كانت تردّد.
قد تكون هذه العبارة بمعناها العميق تشكّل الحكمة الّتي ترافقني في مسار حياتي والتّحدّي أن نجيد التّوفيق بين أمورنا الشّخصيّة والأمور العامّة، بكلّ انسجام مع القناعة الشّخصيّة.

12-س- عبير عربيد: هل يمكنك تقمّص شخصيّتها والإجابة بإيجاز على ” ما أو من هو الأفضل”؟
-شخصية غير كمال جنبلاط
ج- مازن عابد: ميخائيل نعيمة- المهاتما غاندي- جبران خليل جبران

  • قضيّة
    ج- مازن عابد: إلغاء الطّائفيّة في لبنان- القضيّة الفلسطينيّة
  • كتاب
    ج- مازن عابد: قواعد العشق الأربعين
  • قول مأثور
    ج- مازن عابد: المحبّة بالفطرة أمّا الكره فمصطنع.
  • أغنية
    ج- مازن عابد: أنا يا عصفورة الشّجن- كلمات علي بدر الدّين، غناء فيروز
  • . 13-س- عبير عربيد: من خلال تفاعل النّاس مع كلماتها وشخصيّتها الانسانيّة يبدو ظاهرا تميّزها وتقديرهم الاستثنائي لها، هل لك أن تحدّثني عن سبب من أسباب هذا التميّز؟
    ج- مازن عابد: الأسباب كثيرة ولا يتّسع المجال لذكرها جميعا، ولكن أحبّ أن أسلّط الضّوء على ميزة خاصّة بالدكتورة نازك جعلتها قريبة من قلوب الجميع، فقد كانت تحدّث الاطفال وكبار السّن بلغتهم واهتمامهم، المزارع في زراعته والتّربوي في الشّؤون التربويّة، المواطن البسيط في همومه الحياتيّة، تصغي، تتفاعل وتساعد ما استطاعت.. مادّيّا ومعنويّا! ألم يحكى عن سليمان الحكيم انه كان يحدّث الطّيور؟؟ هؤلاء هم المصطفون في الأرض…
    14-س- عبير عربيد: “هي أمّ فوق العادة، سيّدتك ومثلك الأعلى” هذا ما كتبته أستاذ مازن في مقدّمة كتاب “365 يوما مع كمال جنبلاط”.
    هلّا حدّثتنا عن نازك الأم؟
    ج- مازن عابد:
    هي الموجّهة والمربّية والمتفانية حتّى آخر حدود العطاء، كانت تتفهّم الهواجس، ولا تصدر الأوامر، إنّما تحدّثنا بالإيحاء، وهو الأسلوب الّذي يلقى قبولا عند الأطفال عامّة.

15-س- عبير عربيد: بعد شهرين لوفاتها، أسّست صفحة بعنوان كتابها
“صلوات في هيكل الرّوح” حدّثنا عن فكرة هذه الصّفحة وما الهدف منها؟
ج- مازن عابد:
بكل موضوعيّة وبعيدا عن جرح الشّهادة بحكم العاطفة، د. نازك صاحبة فكر واسع وشامل وفيه من المدى الإنساني ما يستحق أن يُنشر، مدركا أنّ في الأمر بعض الصّعوبة كونها أمّي، حيث سيقول البعض أنّنا نتكلّم عن أنفسنا، ولكنّ الواقع غير ذلك، فالهدف الأساسي هو نشر الفك، وما شجّعني هو وجود الكثير من المحبّين لها ولفكرها. وسأبقى ممتنّا مدى العمر لمن ساهم معي في تأسيس هذه الصّفحة.

16-س- عبير عربيد: كيف كان آخر لقاء بينكما؟؟
ج- مازن عابد:
لا اعلم إن كانت الوقائع تحمل في طيّاتها هذا الكمّ من الأسرار والماورائيّات أم أنّنا نسكب من مشاعرنا وذاتنا عليها لنراها بعيون العاطفة…
لكنّي ابدا لا أنسى كلماتها الأخيرة في عيد الأم قبل ٣ أيّام من رحيلها:” كما أوصيتكم، أريد مأتما متواضعا، الأوضاع صعبة لا نريد إزعاج النّاس وإتعابهم
فوجئت وقلت بعفوية: لكن صحّتك تتحسّن ما الدّاعي لهذا الكلام؟
لتؤكّد: العلم عند الله، الهيئة قرّبت يا ماما!!
وتبقى النّفوس أسرارها عند خالقها! وكأنّها اختارت الوقت المناسب كي ترحل متوهّجة نورا ومعرفة وحبّا كما عرفناها كل العمر….
17-س- عبير عربيد: هل من كلمة أخيرة ترغب بتوجيهها لقرّاء موقع نادي الكتاب اللّبناني؟
ج- مازن عابد:
تحيّة إلى نادي الكتاب اللّبناني، تحيّة إلى الرّقي، تحيّة إلى النّشر الهادف في زمن تكاد أن تطغى فيه السّخافة على الثّقافة.

اترك ردإلغاء الرد

اكتشاف المزيد من نادي الكتاب اللبناني

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version