Latest posts by Dr. Salam Slim Saad (see all)

بقلم يوسف طراد

“تحوّلات النقد الأدبي في الصحف العربية” لليندا نصّار: شقاء الاستمتاع بلذّة الفكر
النصوص في معانيها خفايا مستترة، يكاد لا يُدرَك جوهرها إلّا بالنّقد. فكيف إذا كان هذا النقد لنصوص كتبها نقّاد، كما في كتاب “تحوّلات النقد الأدبي في الصحف العربية” لليندا نصّار، الصادر عن “خطوط وظلال للنشر والتوزيع”.
 
تدور في هذا البحث رياضة فكريّة، فيها شقاء ولكّنه لا يخلو من متعة استكشاف المعاني، والتلاقي مع الآخر عند تألّق الفكر حين يقرع باب العقل، ليصبحَ الغموض معادلّا لفرح اكتشاف مزالق الحبر أو جماليته. كتاب يفتح للقارئ نافذةً يطلّ منها على آفاق المتعة لإيجاد أجوبة على أسئلتنا.
 
بعد الإهداء، تأتي المقدّمة التي أضاءت على الواقع الذي يلاحق العصرنة، متسلحًا بالثقافة لإدراك الوعي، من خلال النقد الأدبيّ في الإعلام الثقافيّ. بعده نصل إلى تعريف “تعريف الموضوع” الذي يوضح للقارئ أهمية الإعلام الثقافيّ عند اندماجه بالتنمية “بوصفها تدخل حتّى في صناعة الإنسان المواطن الذي تحتاجه البلدان العربيّة”.
ينطلق البحث بقوة اعتبارًا من الفصل المعنون “مسوّغات البحث” الذي قاربت بنوده “محاولة فهم الأزمة الحقيقيّة التي هزّت صلب الصّحافة اللبنانيّة عمومًا، والصحافة الثقافيّة خصوصًا”. ارتبط “تحديد الإشكالية” بأمور عدّة أهمها السؤال عن الإعلام الثقافيّ و”إمكاناته في خلق وعي جماليّ يرتبط ببناء المسافة النّقديّة، وتشكيل وعي جديد ومفارق لما هو سائد داخل أنماط التّلقّي التّقليديّة في أعداد معيّنة من جريدتي “النهار” و”السفير”.
 
ها هي “الفرضيات” تسلّط الضوء على “المقارنة بين الكاتب المتخصّص في مجال النّقد الصحافيّ، وبين الكاتب غير المتخصّص” مكتشفة “غياب المتخصّصين في النّقد الأدبيّ عن الصفحة الثقافيّة”، هنا يحضر أمامنا فحوى كتاب “في غياب الناقد” للدكتورة مارلين مسعد الذي تكلّمت خلاله على النقد بالإجمال، وليس على النّقد الثقافيّ الإعلاميّ حصرًا، كما في هذه الدراسة.
 
اختارت الكاتبة ضمن “منهج البحث”، “مقاربات علميّة متوخيّة الوصول إلى نتائج جديدة”، لذلك فُرضت عليها “دراسة النّقد الأدبيّ في الإعلام الثقافيّ المكتوب” فاضطرّت إلى الاعتماد على “المنهج الوصفيّ التّحليليّ والمنهج الاجتماعيّ والنقد الثقافيّ والتلقّي والتأويل”.

ضمن فصل “تحولات تلقّي النّقد” أسهبت نصّار في دراسة مقالات الدكتور علي نسر فوجدت مكوّنين أساسيّين يطبعان كلّ نقده، هما: “النقد الانطباعي، والنّقد الأكاديميّ العلمي”.
 
أكثر ما يطبع هواجس الناقد هو رهاب العناوين، هل يختار عنوانًا يجذب القارىء ضمن هذه الغابة الكثيفة من المنصّات الإلكترونيّة، أم يضع عنوانًا يدلّ على فحوى النّص وعلاقته بالمادّة المنتقَدَة؟
فقد أوضحت الباحثة أنّ علي نسر قد “وسم عتبات عناوينه بالاستناد إلى اللّغة الإبداعيّة القائمة على الخرق الدلاليّ كما لو أنّه يعنون عملًا أدبيًا”، خاصّة في نقده لأشعار الشاعر إهاب حمادة. نجح من خلال صلب مقالاته إلى حدّ كبير، في تأدية الموضوع الجديد ضمن النقد الصحافيّ، وأسهب بشكل فعّال في نجاح النّقد العربيّ الانطباعيّ، الذي أعلى شأن النّقد الثقافيّ في الصّحف العربيّة.
 
من خلال تشريح نصوص الكتاب لنقد علي نسر، يظهر لنا أنّه ناقد يتربّع على عرش النّقد، بحيث تمنح مقالاته القارئ الاندفاع والتسويق والحماسة، وتجعله مبدعًا بدوره، على غرار الكاتب نفسه.
 
حين وصفت الباحثة نقدَ علي نسر لديوان الدكتور جورج غنيمة “مساكن بيضاء لريشة كحليّة” غاصت في عبقريّته، مختارةً عنوان “سنابل كلام” لموضوع النقد. لم ينساق النّاقد إلى التصميم والتقييم التلقائي، بل استطاع أن يعزفَ على وتر تفاعل القارئ مع نصّه، من خلال انبثاق عنوانه التعبيريّ من مدلول عطاء ذهنيّ متمثّل بسنابل الفكر.
 
بعد التمحيص في جميع الفصول التي وضعتها الكاتبة حول النّاقد علي نسر، نلاحظ أنّها جعلته ناقدًا إنسانيًا وحضاريًا، يكتب المنقود بإبداعيّة تمحو التناقض الظاهر في المعنى والمبنى، بين الناقد والمنتقَد، ليصير التفاعل على مستوًى مصيريّ، في تفتّح أفق جديد للنّقد الإعلاميّ، ومزجه بفلسفة النقد التقليديّ بواقع إيقاعيّ جميل، يضع شوائب النص المنتقَد أمام بصيرة القارئ.
 
وسمت ليندا نصّار الكتاب بالوعي النّقديّ الذي مارسته الدكتورة نازك بدير “… اإنّ نازك بدير تمارس الكتابة النّقدّية الصحافيّة بوعي كبير بسياقات الإنتاج النّقديّ الصحافيّ، ذلك أنّها عملت على إحداث تفاعل بديع بين آليّات النّقد العلميّ على المستوى الإجرائي بما يوافق القرّاء المتخصّصين وغير المتخصّصين.”

ترافق هذا الوعي مع حضور الشخصيّة المحبّبة للناقدة نازك بدير، من خلال النصوص الأدبيّة الموازية للنص المنتقَد بأسلوب جميل، بعيدًا عن الأسلوب الأكاديميّ الجاف، “وهو ما نلامسه في كتابات نازك بدير التي حافظت على علميّة المفاهيم عبر جعل النقد فنًا غير جافّ”.
 
من خلال السرد العلميّ، نقع على تقنيّة الباحثة المدركة لماهيّة الناقد وصفات الراوي. فقد شرّحت نازك بدير مؤلّفات الدكتورة ناتالي الخوري غريب، وأخرجت منها المفترض، الذي يؤدي بطبيعة الحال إلى هدف واضح، حيث غاصت في أعماق روح الحبر، من أجل إظهار الإبداع الكامن في النصوص. تقول نصّار في هذا السياق: “نجد أنّ نازك بدير عملت على استخلاص وظائف الإبداع انطلاقًا من القضايا التي تمحورت حولها قصص (العابرون) عبر استجلاء مواطن الأسئلة التي تستنبطها القصص”.
العناوين عند نازك بدير، مختلفة عن التي استعملها علي نسر، فقد استعملت الواقعيّة في كلّ عنوان متقيّدة بمعاني النّص المنتقَد، ممّا جعل نصّها وعنوانه روحًا واحدة، بهدف إيصال المعنى بشوائبه وجمالاته، تقول الباحثة عن عنوان بدير “ناتالي الخوري.. الكتابة وتحرير الذات”: “لاحظنا أنّ هناك تقيُّدًا بمرامي النّقد، حيث لا توجد اللغة الاستعاريّة أو المجازيّة التي تجعل من العناوين شبيهة بالأعمال الإبداعيّة بحيث لا يميّز القارىء العادي هل هو أمام نصّ إبداعي أم نقد للنصوص؟” من هنا يظهر الوضوح في المعنى والمبنى ضمن نصوص الناقدة.
أظهرت نازك بدير، في روايات ناتالي خوري غريب، الأجوبة الفلسفيّة المغلّفة بالأسئلة، التي تكمن جواباتها داخلها. فرواية “حين تعشق العقول” ختمت في سطورها ثلاثمئة واثنين وعشرين علامة استفهام، أي ثلاثمئة وإثنين وعشرين سؤالًا، فظهرت هذه الأسئلة كأنّها بيادق خادمة لسرّ الرواية، الذي هو علامة الاستفهام الكبير. استبان هذا عند نقل الباحثة قول بدير حول روايتَيْ الروائية غريب “حين تعشق العقول” و”هجرة الآلهة والمدائن المجنونة”: ” إلّا أنّ هذه الهواجس برزت عند الكاتبة بأسلوب مختلف في هذه المجموعة المثقلة بالرموز اللاهوتيّة”.
 
إنّ الروائية ناتالي الخوري غريب تظهر من خلال نقد بدير وتحليل نصّار لهذا النقد الرائع، كاتبة يصخب في نصوصها إيقاع الإبداع والحرّيّة والحبّ والفلسفة. وتغوص في بحور الإنسانيّة المعذّبة، محاولة وضعها على طريق خلاص المجتمعات، وإفهام القارئ والباحث والنّاقد أنّ الأديان جميعها تحمل حقيقة الوجود ومن أوجده.
 
أمّا السمات التي طغت على عتبات النّاقد عباس بيضون، وفق نصّار، فتميّز نهجها “بأسلوبيّة القراءة النقديّة المفتوحة التي وظّفها، ولم يستطع بواسطتها خلخلة واستنطاق الحدود الفاصلة في ماهيّة الجنس الأدبي”، فقد حاولت الباحثة تخطّي حدود القراءة المفتوحة، والغوص في مفاهيم خاصّة بنقد بيضون بوصفه جنسًا أدبيًا مفتوحًا. 
 
أمّا بالنسبة لنصوص عقل العويط، فبيّنت نهج نصوص الكتابة لديه، التي صدحت بمشاعر وأحاسيس وجالت بحريّة ضمن أعماله الإبداعيّة الأدبيّة. في هذا السياق تقول الباحثة: “نلامس مدى إغراق النّاقد في استحضار اللّغة الإبداعيّة عوض اللّغة النقدية القائمة على تسمية الأشياء بمسمّياتها من دون الخضوع والرضوخ لميسم اللّغة الإبداعيّة”.
 
إذا كان النّاقد مرآة، يرى من خلالها القارىء نصّ الكاتب بمكوّناته التقنيّة والأدبيّة والجماليّة، وتُظهر الرداءة والجودة في النصوص، من أجل اختيار الكتاب من بين آلاف الكتب، فناقد النّقد كليندا نصّار، هو منظار سحريّ. هي الّتي نقدت بنَهَم ومن دون وجل، وجعلت نقّاد الصفحات الثقافيّة في الإعلام حذرين من نقدها البنّاء. بعدما نزعت عنهم تبرّجهم، كاشفة التزامهم أو عدمه بعناوينَ تُجاري النصوص. فقد وجدنا في كتابها “تحوّلات النّقد الأدبيّ في الصّحف العربيّة” من المناعة ما يكفي لقول الحقائق المجرّدة.

اترك ردإلغاء الرد

اكتشاف المزيد من نادي الكتاب اللبناني

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version