بقلم خديجة خالد البعلبكي
النَّقد الانطباعيّ في
“قراءات فلَّاح”
قراءات فلَّاح: تتعدَّد القراءات والقارئ واحد له شغف القراءة والحسِّ الإبداعيّ. لذلك لم تكن قراءات جافَّة، بل يخامرها الحبُّ والعطاء اللَّا محدود. والدَّليل على ذلك تنوُّع الكتب التي تناولها؛ فليس هناك مزاجيَّة في الانتقاء لمنحى معيَّن أو مجموعة معيَّنة من المؤلَّفات. فنجد الشِّعر (ذئبة)، التَّاريخ السِّياسي والدِّيني (القضيَّة اللُّبنانيَّة في فكر شارل مالك)، الأدب والخواطر (أزاهير العبث)، اليوميَّات (ميموزا)، الأدب القصصيّ (سرُّ المئة عام)، السِّيَر (البروفيسور الصَّبيّ)، الأدب الحواريّ (تحت سقف العقل)، العامِّيّ (كركر خيطان)، المقالات (على هامش الشُّؤون)، الرِّوايات على تنوُّعها: الوطنيَّة (خربة مسعود)، السِّياسيَّة (تانغو في بيروت)، الفانتازيا (حارس الموتى)، الواقعيَّة (سوق الملح)، الوجدانيَّة (ماريكّا المجدليَّة)، الفلسفيَّة (امرأة تلامس الخيال)، الاجتماعيَّة (الزِّنجيَّة)، والمحكيَّة (كرسيفا)، ونجد أيضاً أدب الرَّسائل (سقراط وتوماس مور)، أدب الرِّيف (حكي تنُّور)، الدِّراسات (السُّخرية في مسرح أنطوان غندور)، والسِّيرة الذَّاتيَّة (السَّادس والسَّبعون، مار نصر ﷲ بطرس صفير).
إنَّها قراءات زاخرة بالأدب الانطباعيّ الذي يعتبر أقدم منهج للنَّقد ظهر في التَّاريخ. وليس بعيداً أن يكون هو نهج #يوسف طراد لطول مزاولته قراءة الأدب وشغفه بمحتواه المتنوِّع وأساليبه المتعدِّدة. ذلك يرقى إلى مستوى التَّذوُّق وما يبعثه في نفسه مع ما يتداخل من القواعد والأصول في التَّفنيد وإبراز جوانب الاستحسان والنَّقص على السَّواء، مع إبداء الرَّأي والمناقشة العميقة للمحتوى، وطرح الأسئلة وتضمين أفكار ورسائل. ويحضر هنا قول عبد القادر الجرجانيّ في كتابه أسرار البلاغة: “إذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعراً أو يستجيد نثراً… فاعلم أنَّه إلى أمر يقع من المرء في فؤاده، وفضل يقتدحه العقل من زناده.”
إن أردنا البدء، فإنَّنا نجد المقدِّمة في قراءات يوسف طراد تتنوَّع بأسلوبها وتزخر بالانطباع الشَّاعريِّ العميق. ينسج العبارات بكيمياء خاصَّة تمازج ما قرأ مع خلجات الفكر. كأن يقول في قرائته لحبَّة خلاص: ضحك الفراغ من سخط الحياة، أو كما نجد في قرائته لسيرة العالم فيليب سالم: كي لا تبقى الحقيقة شاردة عارية، ولكي يليق بها بحر البحث الخاشع لزهو الخلود. وإذا أردت أن تعرف مدى اتِّساع البديه الفكريِّ، فيكفي هذا السَّطر الذي بدأ به قراءته لرواية ماريكّا المجدليَّة: تحوَّل مشهد السَّخط الوحشيِّ إلى عرس روحانيٍّ في قصَّتين متلاحقتين كالأصل والظِّلّ، متداخلتين كدوائر الهندسة المستوية، ملتصقتين كالكفِّ والقفَّاز. هذا التَّنوُّع أيضاً يتجلَّى في بدئه لبعض المقدِّمات بطرح السُّؤال الذي يكون تعميقيّاً جاذباً لفكر القارئ، كقرائته في خي جيديوس: أهي رواية أم حقيقة وطن موجوع؟. ونجد مقدِّمات أخرى تحمل معنى الاصطفاء والتَّمييز كما يظهر ذلك في قرائته لسيرة العالم بيتر مدوَّر لجوزيف أبي ضاهر: قلَّما كتب أحد الباحثين سيرة عالم أو أديب من بلاد الأرز كما كتب جوزيف أبي ضاهر سيرة العالم بيتر مدوَّر.
وإذا انتقلنا إلى صلب قراءاته، نجد التَّفنيد لأقسام وأبواب مع ذكر مقاطع واقتباسات من الكتب التي تناول قراءتها، كما أنَّه لا يمكن أن لا يلفتك أسلوب يوسف طراد في إعادة حياكة المحتوى وخياطة النَّص النَّقدي مع تضمين الاقتباسات، تجدها كالقطبة التي تتآلف مع أصل القماش دون شعور بأنَّه تمَّ إدخالها عنوة. نجد ذلك جليّاً في قراءته لكتاب “بروق في فضاء الرُّوح”: وحدها “بيروت” تنتظر وسط الضَّجيج حيث “تتمشَّى العثرات” تصبح كلُّ الخطايا حائرة على أرض الأحزان. في “قوارير السِّرِّ”، أفلتت الخيول من أجنحة التَّرحال، وسيطر “بعض وهنٍ” على أشجار غير آبهة بالهزائم. ارتحل الماضي حين “تعبت مراكبنا” وتعلَّق “بحبال الرِّيح”… ولا يغيب عن باله ذكر الأسلوب والطَّابع كما نجد في قرائته لكتاب خي جيديوس: تميَّز الأسلوب بتكامل السَّرد والإبداع في وصف الشُّعور المتناقض. وهنا نجد عدم فصل الأسلوب عن المعنى، هما متداخلان دائماً في قراءاته. ولصدقه وموضوعيَّته، نجد النُّصح حاضراً في قراءاته كما في قرائته لرواية النَّاجون حيث ينصح من هم تحت سنِّ الثَّامنة عشرة عدم قراءة الفصل الخامس والعشرين من الكتاب مع ذكر التَّبرير مدركاً لوقع الوصف على قرَّاء هذا السِّنّ. وأيضاً نجده لا يتردَّد في عرض تقديره للعمل الأدبيِّ وعرض الملاحظة أو التَّوصية بعيداً عن السَّلبيَّات كما في قراءته لكتاب “حكي تنُّور” للأستاذ عمر سعيد، حيث يقول: كان الأجدى بالكاتب ألَّا يُقحم السِّياسة نقداً لأفعال حوادث الكتاب، وأن يترك جمال الوصف والسَّرد لممارسات غابرة ونقدها الواقعيِّ البنَّاء. ويبرِّر ذلك بقوله: فالسِّياسة في بلادنا نفايات مكتومة القيد، تلوِّث الأدب والنَّقد والجمال والمجتمع حتَّى ولو كانت جميع نصوصه دالَّة على سياسة تعتمد الوعي للإصلاح؛ وهنا إنصاف النَّاقد للكاتب.
أمَّا الخاتمة في قراءات الأستاذ يوسف طراد، فتتنوَّع بين طرح الأسئلة كما في قراءته لكتاب “عمر على جناح فراشة” حيث يختم: كيف يقرأ شباب اليوم هذه الرِّواية؟ هل يعي مأساة فراشة تصارع أقداراً ملعونة؟… أو كما نجده يسأل الكاتب وكأنَّه في علاقة مباشرة معه وهذا إن دلَّ فعلى عمق العلاقة بين القارئ والكتاب، وذلك في قراءته “أخذني بعض الوقت لأفهم”: لماذا يا جورج عقيص وضعتنا في أرجوحة الأحلام فوق هذا الجوِّ المشحون بالتَّعاسة؟ لماذا يا جورج عقيص حاولت إزالة الصَّمم من آذان السِّياسيين…ألنستمع إلى سيمفونيَّة الوطن الأفلاطونيِّ؟ لكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟. وفي خاتمات أخرى، نجد يوسف طراد يخاطب الكاتب ليخرجه من حيِّز الكتاب ليكون ضمن مجموعة أدباء آخرين كما في قرائته لكتاب “مزمور السَّجين” حيث يخاطب الكاتب قائلاً: إنَّك يا ملحم الرِّياشي في قفص الاتِّهام مع الشَّاعر الزَّجليِّ سعد كرم القائل:
“يا حلم يا حرّيّة الإنسان
يا أمل يا وعود كذّابة
يا كلمة العاشق ع كلّ لسان
وبقيت خبر مجهول بالغابة.”
وقد اعتمد في قراءات عدَّة أن يختم بالحديث عن الكاتب ويحصر ختمها بالكتاب نفسه كما في قرائته لرواية “الزِّنجيَّة” ليتحدَّث عن دور الكاتبة في جعل الرِّواية صرخة مدويِّة بوجه العطب البنيوي الاجتماعي. أو في كتاب “العتب” حيث أظهر كيف أنَّ ملحم الرِّياشي اقتنص القدر المفقود وترجمه في كتاب.
وإذا أردنا العودة إلى نظرة عامَّة على القراءات، نجد أنَّ يوسف طراد لا يتوقَّف عند الكتاب نفسه، بل يلقي الضَّوء على مؤلَّفات أخرى للكاتب، وبذلك يعطي تهيئة أعمق وأشمل للمضمون ولتوجُّهات الكاتب وآرائه. نجد ذلك في قراءته لكتاب “السَّفينة الحمراء” حيث أظهر السِّمة العامَّة للكاتب في تشكيل عنوان كلِّ فصل والدَّمج بين العناوين ونهاية الفصول بأسلوب شائق ليشمل ذلك أعمالاً أخرى، مثلاً رواية “البنك العثمانيّ”. وننطلق من ذلك إلى أهمِّيَّة ربط العمل الأدبيِّ المنوط بالقراءة النَّقديَّة بأعمال أدباء آخرين، وهذا يدلُّ على سعة الاطِّلاع وقوَّة البديهة الفكريَّة لدى النّاقد. فنجد مثلاً في قراءته لكتاب الأب يوحنّا الحلو “كلفة العيش المشترك” كيف أنَّ هذا الكتاب مزج الفكر الرِّوائيَّ مع واقعيَّة الصَّحافيِّ الملتزم الحقيقة بناسوت الكاهن التَّقيِّ، مؤرِّخاً بأمانة انفلاش العنف والرُّعب الدَّامي على رقعة من جغرافيَّة الوطن المعذَّب. ويقارن ذلك مع أعمال أدبيَّة أخرى وليس تقليلاً منها، بل لتعزيز جانب آخر مهمّ في العمل نفسه. فذكر في القراءة رواية “حصاد الشَّوك” للدُّكتور إميل منذر حيث اختلطت رفاهيَّة الأدب بثقافة الحرب. وذكر العمل الرِّوائيَّ للأديبة ماري القصيفي “للجبل عندنا خمسة فصول” حين زالت الكروم بسقوط الجبل. تصبح هكذا القراءة النَّقديَّة واسعة وغنيَّة، وربط العمل بأعمال أدبيَّة أخرى يزيد من قيمة كلِّ عمل وإبراز المحتوى بشكل أعمق وأوضح. وربَّما أوضح اختلاف طرق التَّعاطي مع الموضوع وتعدُّد الأفكار ووجهات النَّظر.
وبما أنَّ منهج يوسف طراد هو منهج النَّقد الانطباعيِّ. نرى ذلك جليّاً حتَّى في العناوين المختارة للقراءات. فلا يكتفي بذكر اسم الكاتب والكتاب، بل وأحياناً يكتفي بذكر عنوان يظهر المنحى التَّأثُّري وما بعثته القراءة في نفس القارئ. الشَّاعريَّة دونما شكّ. على سبيل المثال، “أدب بين ورود الحبر ومآسي الارتحال” عنوان لقراءة مؤلَّفات الأديبة ماري القصيفي، “الإلحاد المقدَّس” عنوان لرواية “الغريب” للكاتب ألبير كامو، وعنوان “آخر دم مهدور من دون مواعيد” لقراءته كتاب “طائر الفينيق” للدُّكتور منصور عيد. الجدير بالذِّكر هنا أن عنوان الكتاب يستحقُّ أن يكون بمستوى هكذا عناوين إبداعيَّة.
إنَّ “قراءات فلَّاح” أظهر لنا النَّقد الانطباعيَّ السَّليم متضمِّناً انطباعه مع تقييم العمل الأدبيّ مبنيّاً على أساس موضوعيٍّ وعلى ما يبعثه في النَّفس أيضاً. إذ لا يمكن إدراك القيمة الجماليَّة والمفاهيميَّة في الأدب بتحليل موضوعيٍّ آليّ. وإنَّما يُدرك ذلك بالتَّذوُّق المباشر والغوص العميق. ثمَّ بعد ذلك يتمّ الاستعانة بالتَّحليل والقواعد والأصول لتحليل ما تناوله وتعليل جوانبه ومحتواه.
لا شكَّ أنَّ ذات الكاتب ظاهرة في هذه القراءات، ذات مُحبَّة، شغوفة، منصفة وشاعريَّة. قراءاته تعكس استجابته القويَّة للأعمال الأدبيَّة التي قرأها وانفعاله بها. لذا كان نقده ليس بارداً البتَّة. فقد كان نقداً إبداعيّاً روحه آهلة بالجمال والحبِّ ورقيِّ الفكر والتَّذوُّق. وهنا يبقى سؤال: هل كان اتِّباعه للمنهج الانطباعيِّ في النَّقد نتيجة دراسة مسبقة أم الموهبة كانت الحكم في ذلك؟
- أطول جملة في “البؤساء” للكاتب ڤيكتور هيجو - ديسمبر 23, 2025
- حوار مع الشاعرة رانيا مرعي - ديسمبر 23, 2025
- اللغة بين قلق الأكاديميين و هشاشة المستهلكين - ديسمبر 14, 2025
