Latest posts by Dr. Salam Slim Saad (see all)

بقلم يوسف طراد

بسطاءٌ لكن عظماء
“من كتاب قراءات فلّاح”
  نشأ مازن عبّود في بلدةٍ انطلق منها حلم الاستقلال من خلال فيلم (سفر برلك) للرحابنة، فأصبح طيرًا من دون شجر وجنديًا بندقيّته القلم، شاردًا بين الشّعارات ودموع الوطن، فكتب بسارية العلم (قصص وأزمنة من أمكنة)، صدرت عن دار سائر المشرق فأدركت حياة بسيطة جميلة في زمنٍ لا يتكرّر.
  يقول فريدريك نيتشه: (في كلّ إنسان حقيقيّ، يختبئ طفل يرغب باللعب.) هكذا الكاتب استطاع أن يحبس الحلم في جفونه ليحقّقه على أوراقٍ زاهية بحبرٍ من فرح اللعب وظلال الأمكنة. بعد الإهداء عتبة للكتاب بقلم الأستاذ حبيب يونس حفر عليها هويّة بلدة (دوما) تلك البلدة الشماليّة الجميلة الهانئة، الرابضة بين الجبال، التي تعتمر القرميد الأحمر تاجًا، وتنتعل جهد الحقول وكروم الزيتون مداسًا، في خدمة مملكة الجمال. بعدها ندخل مباشرةّ في صلب الخبريّات القديمة الطريفة، الجميلة ببساطتها، والغنيّة بمضمونها بعرضها لنظريّات فلاسفة كبار، خبريات تزهوا بمناقشاتها بين العامة البسطاء والكهنة عبر سطور مضاءة بقناديل قديمة ذات نورٍ شحيح في شوارع مسقط رأس الكاتب، لكنه على شحّه يبهر العقول، ويعمل كفيتامينات منشّطة لذاكرة كلّ من يسكنه الحنين.
 
أدركت الدومانيّة جنفياف، رئيسة جمعيّة الحُبِل بها بلا دنس، منذ فترة طويلة، حقيقة جميع النظريّات قبل “بول غيلنغ”، في أوّل قسم من الكتاب (المحلَّة والتفكك العظيم)، وبقيت بانتظار استنباط الحلول من الرب. وأيقن “زكّور” أنّ الحكومة أساس المشكلة وليست الحل. أسئلة الصغار تجعل من أجوبتنا أساطير، إنّه الإحراج الذي سبّبه “جان مارك” الصغير خلال أسئلة جوابها من وحي ديمقراطيّة توافقيّة في تركيبة برمائيّة جويّة تحاكي الرقص مع الذئاب.
هل أنّ شؤون وشجون الطائفة ككلّ تَُقرّ من قبل قندلفت؟ (لا تحزن منهم بل عليهم) هل هي وصيّة صدرت عن الخوري “طنسي” رغبةً منه في ابتعاد ابنه عن الإكليروس، أم اعترافٌ ضمنيٌّ بمسار كهنوته وهو على فراش الموت؟ (متمرّد من جماعة هتلر) يقود سيّارة تاكسي؛ فرقة من الصِبية الصغار يؤلّفون عصابة مركزها (سيّارة جيجو) المعطَّلة؛ كشّاف صغير يحلم بغزو النجوم.؛ مغارة بيت لحم بين الجنون ومملكة “حلمستان”. 
  عيد غطاس من نوعٍ آخر لم يأتِ على ذكر طقوسه مارون عبّود لاختلاف التقاليد في المذاهب. حلمٌ بدخول الجامعة الأميركيّة تُوِّجَ بوفاة الساعية. قطار ومحطّة وسكّة، لا تشبه قطار مسرحية (المحطّة) للرحابنة، فقطار الرحابنة وهْمٌ واقعٌ، صعد فيه الجميع باستثناء المؤمنة به، أما واقعنا فقطار، وسكّة، ومحطّة، وموظّفين، وميزانيّة لرحلات مؤجَّلة إلى أبد الآبدين. حبيبة قديمة يزّفها حبيبها وتبقى في أعماق روحه “نغمًا دهريًا يُردّد ويتجدّد” بالرغم من الزواج بغيره. وانسحب ذلك على عاشقٍ يناجي الأرواح قبل الوصول إلى قصص الناس.
  ضمن قصص الناس أرسى شلّيطا المعّاز، عن بساطة وطيبة قلب، نظريّة الغذاء في العالم، واصفًا الإنتاج الوهميّ نهايةً للبشر. أمّا شهيد المشهور بكَرَمه، فوجد شادي الذي ضاع، وأسكنه الحكاية التي زرعها في مخيّلة زائره، مع كرم الضيافة من صينيّة أدوية بدلًا من (النقولات). (الخوري والعرق وجليلة العرائس) قصّة قصيرة بعدد صفحاتها، وكبيرة بالمعاني التي تتغلغل فيها، أرادها الكاتب واقعيّة فجاءت واقعًا طريفًا، دعنا نُقَّلب صفحاتها بمحبّة نزولًا عند رغبته: (أرجوك لا تحمّل قصّتي أمورًا أكثر من قدرتها وتُدخلها في إطار البحث العلمي والتدقيق). سعيدة لم تكن سعيدة مع الربيع العربي، هي العائدة من أستراليا، ولا تعلم أنّ طبخة الربيع العربي بحاجة إلى هذا الكَّم الهائل من حريق دواليب الكاوتشوك لتنضج. 
  (البلوك) في ذلك العصر نجده في قصّة (فوتين وعظام زوجها وساسين والإسكندر)، تلك الأرملة التي كبَّلتها ظنونها بالحياة فور عودتها من زيارة للمقابر. سوء التّفاهم في فكر صبيّ بين عمّانوئيل وعزرائيل، لم يتَّضح إلّا عند البلوغ، فتغيّرت مفاهيم الميلاد في وجدانه، ووجد المسؤولين متقمّصين بيلاطس في كلّ عهد.
قصّة (مراهق وبعض بيروت في زمن الحرب) ضمَّت فلسفةً مٌقْنِعَة تدلّنا -رغم قِناعِها- على “شيئيّة الإنسان” عندما تصبح الحرب بين الإخوة. (ظلٌّ ونورٌ) خطيئة راهبة وتوبة وحكمة. مخلوقات الحشيش المحتَقَرين، وآكلة اللحوم ذوي الشأن، حكّام الأرض الحقيقيون، في خلال حديثٍ مشَّوقٍ لأبّولو المعَّاز. شعائر أورثوذوكسيّة تفصيليّة في فترة الصيام، وكأنك تقرأ (الشحيمة). وصفٌ رائع لإنخطاف صغير بالحياة الكنسية، وطقوس تراءت في أشخاص من قريته في قصَّة (صبي الولادة والموت والقيامة). وجدانيّات من وجود، وحبور من عبادة، وقائدٌ كشفيٌّ خُلِّد بترانيم وبخور ونسائم وادي نهر الجوز، ضمن أقصوصة (ظلٌّ وأيقونة وقيامة). إذا كان الظّل الذي رافق الكاتب إلى ارتعاش الذكريات (حمل قلمه وسائر وزناته ومشى) فلا حاجة لنا لحكومة ظلٍّ أو مجلس ظلٍّ، فالظلال من طينة واحدة، خلافًا للأصل.
  جمع مازن عبّود شخصيات مميّزة من قريته، في سطور زاهية بميزة الماضي، شخصيّات حفرت الوعود قبل غمام العمر، وانتشى الحنين ذكرى في كلّ دربٍ. سَرَدَ أخبار الصغار حروفًا متباهية بنسائم الروح وخوف الكنيسة على أفق الزمن الزاهر، -وإن عادوا- لن يعود.
  تمايلت على مطَّل (دوما) أزهار القندول والوزّال رقصًا مع نسيم جارها الشّلال، تمنت صحوة أحبّة بين ضلوعٍ فقدت الحواس وبقي المعنى.
  “أحمدك أيها الآب، يا رب السَّماء والأرض، لأنك أظهرت للبسطاء ما أخفيته عن الحكماء والفهماء.” (لو: 10-21)، نعم إنّ أبطال الكتاب تفوّقوا على عشرات الفلاسفة وواضعي النظريّات المذكورة في خلال السرد الممتع، تفوّقوا عليهم ببساطتهم، وكان تفسيرهم ثابتًا لنظريّات ما زالت مبهمة إلى يومنا هذا.

اترك ردإلغاء الرد

اكتشاف المزيد من نادي الكتاب اللبناني

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version