بقلم نسرين عبدالله
قصَّةُ لوحة عباد الشمس🌻🌻
انتقل الفنان الشَّغوف فنسنت فان غوخ الى مدينة آرل في جنوب فرنسا في شباط عام 1888 لكنه عانى من الغربة والوحدة وراودهُ حلمُ إنشاء جمعيَّةٍ للفنانين يكون مستشارها الفنان الرّائد بول غوغان، فقام في ربيع ذلكَ العام بدعوةِ غوغان لينضمَّ إليه في ما يسمى بـ “البيت الأصفر” الذي كان قد استأجره هناك. وفي انتظار غوغان، قضى فان غوخ صيفاً فنياً مثمراً عمد من خلالهِ الى إثارة إعجاب فنانه المفضَّل. حيث رسم عدة لوحات لتزيين غرفة غوغان كعربون لصداقتهما وشراكتهما المنشودة. كان شغفُ فان غوخ حينها أزهارُ عبّاد الشمس التي أصبحت في وقت ما مرادفة لفان غوخ بعد رسمه لسلسلة من سبع لوحات عنها، توزّعت في عدّة متاحف لتكون اللوحة الرّابعة ذاتُ الخمسة عشر زهرة ًمن نصيب المتحفِ الوطنيّ في لندن. و لاتزال النّسخ المتعددة والمطابقة لهذه اللوحة محطَ جدلِ الباحثين في مجال الفن.
لماذا عبّاد الشَّمس؟
كان لأزهار عبّاد الشَّمس أهميّة خاصة لدى فان غوخ إذ كان اللون الأصفر يوحي له بالسّعادة بالإضافة الى كون هذه الأزهار رمزاً للإخلاص والتّفاني في الأدب الهولندي. إلا أنَّ الأطباءَ والمعالجين النّفسيين الذين تابعوا أوضاعه الصحيّة عبر السّنوات كان لهم رأيٌ آخر. فقد كان فان غوخ يعاني من نوبات شخّصها الأطباءُ على أنها صرع الفصّ الصّدغي. إذ كان قد وُلِدَ بأذية دماغيّة تفاقمت بسبب إدمانه الأفسنتين (شراب مُسكر كان شائعاً بين الفنانين في ذاك الوقت) مما سبب له الصرع، بالإضافةِ الى احتواء هذا الشراب على سم الثوجون الذي يؤدي عند تناوله بجرعات عالية الى رؤية الأشياء باللون الأصفر. ويُعتَقَدُ بأن أحد أطبائهِ قد عالجه بعقار من فصيلةِ الديجيتاليس والذي من المحتمل أيضاً أن يسبب رؤية الأشياء باللون الأصفر. وهنا اختلف الأطباءُ في تفسير انجذابهِ الكبير لهذا اللون.
وأشار أحد أطبائهِ الى تناول غوخ لرقائق من الألوان خلال نوبات مرضهِ وبسبب احتوائها على الرّصاص سببت له التسممم بالرّصاص الذي يؤدي الى تورّم شبكيّة العين مما يسبب رؤية الضّوء كهالات حول الأشياء. وهذا ما نراه في كثيرٍ من لوحاته. وتظهر الأزهار في هذه اللوحات بمراحل مختلفة من الذّبول مما يذكِّرنا بدورة الحياة والموت ويعكُس شيئاً من حالتهِ النَّفسيّة.
تجارب لونيّة
بانتقاله الى باريس عام 1886، لاحظ فان غوخ، الذي يعد أبو المدرسةِ التّعبيرية، الألوان الجريئة لرواد المدرسة الإنطباعية في الفن (مثل رينوار) واستخدامهم للألوان الزَّاهية والمتضادةِ بجانب بعضها. كما لفته استخدام طبقة سميكة من الألوان مع ضربات فرشاة بارزة أو ما يسمى بـ .Impastoوقد عُرف أيضاً عن الانطباعيين استخدامهم لموضوعاتٍ من الحياة الواقعيّة والتّشديد على استخدام الأشكال الهندسيّة مع بعض التحريف لإضفاء تعبير إضافي عليها. كما قاموا أحياناً باستخدام ألوان غير طبيعيّة أو إعتباطيّة مما يعزّز الانطباع الذي يعطيه الشّكل الهندسي. سلسلة لوحات عبّاد الشّمس اتبعت هذا النّمط. حيث أعطت ضربات الفرشاة البارزة ذات المظهر النحتي شكلاً وملمساً لبذور دوار الشمس، كما ظهرَ اللونُ الأصفرُ للأزهار على خلفية زرقاء ليعود في النّسخ اللاحقة (كهذه النسخة) ليرسم الأزهار في مزهريّة صفراء متموضعةً على طاولة صفراء وبخلفية لحائطٍ أصفر لتبدو اللوحة مع ذلك مشعّةً. ولحسن الحظ كانت نوعية الألوان قد تحسّنت في حين رسمه لهذه اللوحات مما أبقاها نابضةً بالحياة ومحافظةً على جودتها الأصلية.
ورغم استخدامهِ لبعض تقنياتها، لم يكن فان غوخ مؤيداً للمدرسة الإنطباعيّةِ بشكل كامل حيثُ اتهمها بكونها زُخرفية بحتة. لذا يعدُّ فان غوخ من رواد المدرسة مابعد الإنطباعيّة التي كانت أكثر اهتماماً بتوظيف معنى ورمزية للأشياء المرسومة.
تُعرض رسائل فان جوخ إلا فى مناسبات نادرة وغالبا ما جرى حفظها فى متحف فان جوخ فى أمستردام ولم يتم إعارتها أبدًا لأسباب تتعلق بالحفاظ عليها.
لكن جامعة خطابات فان جوخ السويسرية آن مارى سبرينجر هى واحدة من عشرة من هواة الجمع الذين يمتلكون عددا من الرسائل النادرة له ومنها خطاب تم تضمينه فى معرض للمراسلات لنحو 20 فنانًا فى متحف مدريد ناسيونال تيسين بورنيميزا عن لوحات عباد الشمس الشهيرة.
تم إرسال رسالة لوحات عباد الشمس التى كتبها فان جوخ إلى صديقه الرسام إميل برنارد من جنوب فرنسا فى 21 أغسطس 1888، ومن اللافت للنظر مدى التغيير الذى طرأ على خط يد الفنان فى هذه المراسلة.
ووفقا لموقع أرت نيوز فما يجعل هذه الرسالة استثنائية بشكل خاص هو أن فينسنت فان جوخ كشف عن نيته فى إنتاج سلسلة من لوحات عباد الشمس لتزيين البيت الأصفر وهو البيت الذى عاش فيه فى آرل بجنوب فرنسا.
يبدأ فان جوخ فى رسالته بإخبار صديقه عن المناظر الطبيعية التى استقرت على حامل الرسم الخاص به وهى لوحات عباد الشمس حيث يقول: “أحاول رسم أشواك مغبرة مع حشد كبير من الفراشات يحوم فوقها، الشمس الجميلة تغرب هنا فى ذروة الصيف؛ إنه ينبض على رأسك ولا يساورنى أى شك على الإطلاق فى أنه يدفعك للجنون ما أفعله هو الاستمتاع بها”.
بعدها يخبر برنارد عن خطته فى الرسم حين يقول: “أفكر فى تزيين الاستوديو الخاص بى بستة لوحات من عباد الشمس حيث تزدهر الزخرفة التى ينفجر فيها اللون الأصفر القاسى أو المكسور على خلفيات زرقاء مختلفة، من الفيروزى الفاتح إلى الأزرق الملكى، مؤطرة بشرائح رقيقة مطلية برصاص برتقالى مع أنواع تأثيرات النوافذ ذات الزجاج الملون، نحن مجانين، دعونا على أى حال نستمتع بما نراه، أليس كذلك؟”.
بدأ فان جوخ سلسلته من لوحات عباد الشمس يوم الاثنين 20 أغسطس 1888، بعد يومين من الكتابة إلى برنارد، وفى أسبوع واحد فقط، أكمل سلسلة من أربع لوحات تجسد زهور عباد الشمس.
بدأ الرسام الهولندى برسم دقيق لثلاثة أزهار عباد الشمس بلغ ذروته فى تحفة فنية أخيرة بخمسة عشر زهرة نابضة بالحياة، بينما لا يزال أول عملين من السلسلة غير معروفين نسبيًا، وقد تم إخفاء لوحة ثلاث زهور عباد الشمس فى مجموعات خاصة بينما تم تدمير لوحة ستة أزهار من عباد الشمس فى اليابان خلال الحرب العالمية الثانية.
- أطول جملة في “البؤساء” للكاتب ڤيكتور هيجو - ديسمبر 23, 2025
- حوار مع الشاعرة رانيا مرعي - ديسمبر 23, 2025
- اللغة بين قلق الأكاديميين و هشاشة المستهلكين - ديسمبر 14, 2025
