- سحر الحضور - مارس 18, 2024
- بين شقاءٍ وحب - يناير 30, 2024
- صفقة القرن العشرين - يناير 23, 2024
بقلم يوسف طراد
حذاء العيد
كان الباعة المتجولون، يمرّون بالقرية في مواعيدٍ محدّدة، كالطيور المهاجرة. لكلِّ زمن بائعه، ولكل فصلٍ بضاعته. وكان (جرس خير) بائع الأحذية الكاوتشوكية من ضمن هؤلاء الباعة.
عند كلِّ مرورٍ لطيور أيلول في سماء القرية، كان الأطفال يحلمون بالطيران في سموات لا تحدّها حدودٌ، ويتمّنون أن تكون لهم أجنحة بدل الأحذية. لكنّ الواقع مختلف عن الحلم، فالصندل الكاوتشوكيّ الذي طُبع ظلّه على القدمين خلال فصل الصيف اللّاهب، وكانت خريطة الظلّ قد ارتسمت بخطوط عريضة، شبيهة بخطوط خريطة مصطفى لطفي المنفلوطي على رأس زبون “الحلّاق الثرثار”، هذا الصندل، قد ضاق ذرعًا بأقدامٍ لم توّفر حفّةً إلّا وقفزت فوقها، ولم يسلم جذع قندول من كعابها إلّا وكُسر، من أجل إشعال نار لشواء عصافير، كانت ضحية لخردق بواريد الدّك. فهناك صنادل أصبحت سماكة مساحتها التي تحتّك بالأرض، كرقّة ورقة السيجارة، بسبب الركض والفرملة المفاجأة التي كانت تفرضها ألعاب كثيرة. وهناك صنادل أخرى تقطّعت أوصالها ورُبط بعضها ببعض بواسطة (شريطة حديد) أو خيط قنّب.
كان الموعد الثابت لقدوم جرس خير، في أحد الورديّة من كلِ عام، وكانت الأمّهات ينتظرنه بُعَيد القدّاس، تحت شجرة الميس الوارفة الظلال، قرب الكنيسة، في عبّهنّ المال، والبيض في سلال من لا يملكن النقود.
علامة قدوم بائع الأحذية أصوات مفرقعات خارجة من (أشكمون) أي عادم درّاجة ناريّة ترزح تحته، يتدلّى من مقعدها الخلفيّ خرج شبيه بخرج الحمار، يحتوي على (أسلوطتين) أي سلّتين كبيرتين من القصب، تحويان جزمات كاوتشوك من لونٍ وموديل واحدٍ، فضلاً عن أحذية نسائيّة كاوتشوكيّة مسكّرة، تشبه مقدّمتها مقدّمة مركب الصيد. جميع هذه الأحذية كانت متشابهة، مع اختلاف بالمقاس بحسب قياس الأرجل.
يا سعد الولد البكر؛ فقد كان يحظى بجزمة جديدة وكانت جزمته تؤول إلى أخيه الأصغر، كما تعود جزمة الأخير لأخيه الأصغر منه. أمّا من مزّق جزمته خلال الشتاء الذي مضى، فلم يكن يعلم بأن أمه ستدفع مبلغًا مضاعفًا لشراء جزمتين، واحدة له وأخرى لأخيه الأصغر منه.
ومن كان يهتم للون أو شكل أو نوع حذاء؟ فكل الاهتمام كان ينصّب على اللعب والفوز بألعاب لا تخطر على بال جيل اليوم. فالأحذية كانت موحّدة للجميع (ستندر) جزمة كاوتشوك سوداء ماركة (عنتر) شتاءً، وصندل مشبّك صيفًا، وكان هذا الأمر يسري لمدة طويلة، إلى أن تنتهي مرحلة التعليم المتوسطة، فقد كان على الأهل أن يبتاعوا حذاءً جلديًا لكل متقدّم لشهادة (البريفيه) لأن الامتحانات كانت تحصل خارج البلدة، على أن يرافقه هذا الحذاء طيلة المرحلة الثانوية، إذا حالفه الحظ ونجح في الامتحان، وإذا لم يحالفه يبقى الحذاء الجلديّ مستوطنًا الخزانة، لا يظهر إلّا في الأعياد للذهاب إلى الكنيسة فقط.
البكر عند الجيران تلاه توأمان؛ فكان الأب بحيرة من أمره، لأي توأم من الإثنين سيعطي جزمة البكر، ولمن سيشتري واحدة جديدة؟ الحل كان عند الأم الحنون التي لا تستطيع المفاضلة ما بين أولادها، فقد أعطت جزمة بكرها التي ضاقت على قدميه إلى طفل آخر من غير عائلة، وابتاعت جزمتين للتوأمين، واحدة دفعت ثمنها بالمال والثانية بالبيض البلدي، من دون علم الأب والأولاد.
بما أن الجزمات، كانت تظهر صبيحة الميلاد عند نهوض الأطفال، يجدونها قرب المخدّة، وبداخلها الزبيب والجوز، وتظهر جزمات أخرى مع الأطايب نفسها داخلها، كانت قد خاطتها الجدّات من خيش الأكياس البالية، للأطفال الذين حصلوا على جزمات موروثة وليست جديدة. فقد أخذت الحيرة التوأمين طيلة المدّة من أحد الورديّة إلى صبيحة الميلاد، لمن ستكون الجزمة الجديدة؟ وكانت المفاجأة التي لم يُحلّ لغزها.
ومرّ عيد الميلاد، وتلاه عيد القيامة المجيدة، ومرّت الطيور المهاجرة بمسار معاكس لرحلتها في أيلول، وانتظرت الأمهات جرس خير في (أحد عبّود) بداية الربيع لشراء الصنادل لاولادهنّ.
