بقلم سناء شجاع
إبريق…
الكاتبة لم تعلن للملَأ عن صنفه اسمًا، لذا شاءته سياقًا.
هو عنوانٌ لقصّة، أو لسردٍ، إذ لا يشترط لسردٍ ما أن يكون قصّة. فالقصّة كما درّستنا إيّاها صفحات الكتب المدرسيّة مرادفٌ لبناء من وضع أوّلي، فعنصر طارئ، فعُقدة، فالحلّ، يليه وضع نهائي وعِبرة يفضّل ألّا تنتهي بعَبرة. غير أنّ، ورفضًا لاعتيادٍ مُعتاد، جعلتُ السّرد بلا قصّة، رغم أنّه قصّة. هنا قد يُطرح التباسٌ ما، فيأتي أشيبُ اللّغة برهنةً لرفضٍ وتصويب، وآخر يصدحُ بِ “لا” توثيقًا لخبرةٍ نادمت المحابر معنى وتعليلا، وآخر …، وآخر . ما أجملَ أن تُحدثَ جدليّة ما، أو استدارة برهنةٍ وإيعازٍ، وأنتَ المطمئن لمحتوى ما أردته أن يكون المحتوى في زمن الفراغ أو التّفريغ.
إبريق …هو سردٌ واقعيٌ، ولكن سرد يختلف عن التّقاليد. إبريق رمز لمجتمع يبدأ بإنسان يمرّ بنَيسان، يحسب أنّه بنَيسانه هذا هو بغنى وبمنأى عن نسيان، ليلاحظ المقاربة والمفارقة بينهما، رافضًا أحدهما، راغبًا بكلَيهما. طرحٌ جديدٌ قد يقف القارئ أمامه حائرًا باحثًا عن تفسير رمزيّته، وهو الجَلِيّ لمن كان له الجَلِيّ.
إبريق…سردٌ لبائع متجوّل، كان يجوب دروب القرى المتعرّجة كشرايين الجسد على دابّةٍ باسمة. هكذا كانت توحي شفتاها الغليظتان. وهو، أي الجوّال، كان أنيق الملبس، والملفظ، والقفز عن ظهر الدّابة. يُعرّج على ” سُطَيحات” قرية ” العنبر” ليشرب كوب ماء هنا، ويرتشف القهوة السّاخنة هناك، ويحيّي سمراء مغناج تشقّ دربها نحو عينِ أُمّها، ويستريح عند مَورد الماء إذ نهقتِ الدّابةِ طلبا.
” إبريق ” سردٌ يفوق قصّة، يفوق علبة سجائر نُفِثَت بأكملها كرمى خاتمةٍ.” إبريق” عِبرةٌ من معابرَ وعابر وعبور وعبير. ” إبريق” إناء يختلف عن إناء شكلًا ومحتوى. باستطاعة اليد أن تتناوله من دون يد، ويستطيع مَن يتناوله أن يرتويَ وهو ليس بوِرد. هو لقاء جميل بين زمنين، ولكن لكل زمن أزمانه المنفصلة، والمتّصلة، والمستترة. هو سَكبٌ في كفٍّ كلما فاضت به استفاضت وأضاف، ليمتلئ بها. ” إبريق ” ليس بحبّ رغم احتوائه الحب. ” إبريق” ليس بنقد رغم أنه النقد. ” إبريق ” ليس بمحارب رغم أنه الرّافض. ” إبريق” سرد جميل، للمرة الألف منحه النّهر كوثر ينابيعه، وللمرّة الألف منحه الشّلّال هديره، وللمرة الألف منحه العصفُ صفيره، وللمرة الألف منحه الرّعد بريقه، وللمرة الألف منحه الأسد زئيره، وللمرّة الألف منحه الوجد خليله.
وكي أدخل في صلب الموضوع لا بد من استراحة تعيدني إلى صلبه محبّة. لذا سأغفو عشرين ساعة بمقياس مزاجيّتي لأعود إلى صلبه.
- أطول جملة في “البؤساء” للكاتب ڤيكتور هيجو - ديسمبر 23, 2025
- حوار مع الشاعرة رانيا مرعي - ديسمبر 23, 2025
- اللغة بين قلق الأكاديميين و هشاشة المستهلكين - ديسمبر 14, 2025
