في مثل هذا اليوم، ١٨ حزيران، من العام ١٩٣٦، توفّي الكاتب الروسيّ الكبير مكسيم غوركي.
و” غوركي” كنية تكنّى بها، وتعني في اللغة الروسيّة” المرّ”، وقد اتّخذها من واقع مرارة الشعب الروسيّ الذي كان يرزح تحت نير الفقر والعذاب والظلم، في ظلّ الحكم القيصريّ، والنظام الإقطاعيّ الذي كان سائدًا.
لم تكن طفولة غوركي سعيدة على الإطلاق؛ فقد عاش في كنف جدّه وجدّته كونه أصبح يتيم الأب والأمّ.
أمّا جدّته، على ما ذكر في مذكّراته، فقد كانت تحسن رواية القصص له، فانطبع ذلك في ذهنه، وحلم بأن يصبح كاتبًا. وأمّا جدّه فكان قاسيًا، أخرجه من المدرسة قبيل المراهقة، فانتقل من منطقة إلى أخرى بحثًا عن اللقمةالمرّة. ولكنّ هذا البحث والتنقّل أفاداه إلى حدّ بعيد، وهو ما سمّاه “جامعاتي” التي تعلّم فيها على نفسه، كونه لم يعد إلى المدرسة أبدًا.
استؤصلت الرصاصة التي حاول، في صباه، الانتحار بواسطتها، من رئته اليسرى، وقد تركت آثارًا مدمّرة فيها.
آمن بالثورة طريقًا إلى التحرّر، وبالإشتراكيّة نزعة إنسانيّة تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعيّة، وبالكتابة فعلًا أخلاقيًّا وجماليًّا وسياسيًٌا قادرًا على تغيير العالم نحو الأفضل.
حقّقت كتاباته نجاحًا تخطّى حدود بلده، ومكّنته من الاتّصال بكبار القادة البلشفيك، وأدخلته السجن أكثر من مرّة، ودفعته إلى الهرب والتخفّي مرّات.
صادق لينين، وحافظ على استقلاليّة في الكتابة دفعته إلى نقد التصرّفات التي اعتبرها ظالمة، سواء أثناء الحكم القيصريّ أم بعد انتصار الثورة البلشفيّة الكبرى.
تميٌزت كتاباته بالبعد الإنسانيّ الذي لم يفارقه، وعُدّ من مؤسّسي الواقعيّة الاشتراكيّة في الأدب، وقد غرف من الواقع المزري والتزم قضيّة التحرّر الاجتماعيّ ومعاداة البرجوازيّة.
عرفناه، أكثر ما عرفناه، من خلال رواية “الأمّ” التي نشرها للمرّة الأولى عام ١٩٠٧، فعرفت شهرة عالميّة، ووجدت طريقها إلى السينما الصامتة.
أصبح رئيسًا لجمعيّة الكُتّاب، وأُطلق اسمه على أضخم طائرة توبوليڤ صنعها الاتّحاد السوڤياتي، كما أُطلق اسمه، ما بين ١٩٣٢و ١٩٩٠، على مدينة نجني نولفراد التي ولد فيها.
أمّا رواية الأمّ، فهي وصف مذهل وقويّ لامرأة من الشعب، أصبحت رمزًا للبؤس والشجاعة في وجه الاضطهاد والنفي، فقد رفعت العلم وتابعت نضال ابنها ورفاقه. وقد حشد فيها البعد النسائيّ والطابع الرياديّ للمرأة اللذين لم يُعطيا حقّهما من قبل.
تصف الرواية التطوّر الذهنيّ لأمّ عاملة في زمن ما قبل الثورة، كان ولدها “بول” مناضلًا اشتراكيًّا. وكانت ترتعب من آراء ابنها الخطيرة التي لم تفهمها، ثمّ وقعت تحت تأثير سحر رفاقه الذين ميّزتهم الحميّا والمثاليّة وحبّ الإنسانيّة.
شيئًا فشيئًا، استفاق في نفسها وعي انعدام العدالة الذي يعيشه العمّال في المجتمع القيصريّ، لذا أخذت على عاتقها نشر المبادئ التي كان يدعو إليها ابنها، بعد أن اعتقل، لتخليصه من السجن. ولمّا اعتقل مجدّدًا انخرطت في العمل السياسيّ، وتعلّمت القراءة من جديد، وشاركت في توزيع الصحيفة، وعملت على نشر الفكر الثوريّ في الأرياف حيث عرفت نجاحًا. وهكذا، أصبحت شيئًا فشيئًا مناضلة اشتراكيّة حقيقيًة. وقد عرفت الرواية نهاية مفاجئة مع اعتقالها، ممّا كرّسها مناضلة مثاليّة.
عمل غوركي في ظلّ الحكم الستالينيّ وعرف مكانة عالية، فقد شارك كلّ من ستالين ومولوتوڤ، صاحب الكوكتيل الشهير باسمه، في حمل نعشه في الساحة الحمراء، ليدفن في مقبرة حائط الكرملين، خلف ضريح لينين.
لعلّ أبرز ما شدّنا إلى كتاباته، ونحن نقرأه مترجمًا، هو إيمانه بالقيمة العميقة للكائن البشري.
أليس الأدب الحقيقيّ هو الأدب الإنسانيّ الذي يؤمن بالإنسان وقدرته على صنع مصيره؟
- أطول جملة في “البؤساء” للكاتب ڤيكتور هيجو - ديسمبر 23, 2025
- حوار مع الشاعرة رانيا مرعي - ديسمبر 23, 2025
- اللغة بين قلق الأكاديميين و هشاشة المستهلكين - ديسمبر 14, 2025
