بقلم دريد عودة

في حديقة بيت العائلة في الريف، زرعت أمي (وأبي) مئات الأشجار والأزهار من كل صنفٍ ولون، وفي فترةٍ من الفترات كنا ندخل البيت في غابةٍ من دوّار الشمس. وكم فاجأنا ضيوفنا بطلّاتهم المحبّبة من بين تلك النبتات الصفراء البهية التي تراقص الشمس! وكم من مرّة استوقفتني أمي في السيارة لأصعد تلّةً أو حرجًا رأت فيه من بعيد شجرة برّية مزهِّرة فأرادت أن تزرعها في حديقتها الغنّاء. حملت تلك الذكريات وغرستها في كتابي الأخير “براعم الأزل”:
أمّي! في عيد ميلادك اليوم باقة من حديقة “براعم الأزل”.. كلماتٌ لك هي ظلال جنّتك:
أنت يا يمامة النور روح الأرض. فماذا لم تزرعي في أرضكِ الصغيرة؟! حفنة ترابٍ قليلة من أمّنا الأرض جعلتِها حديقة الله ورحم الملائكة. فيها غرستِ السنديانَ فصار أغنية الحياة، والأرزَ فغدا نشيد الخلود، والشوحَ فأمسى قيثارة االفجر والمساء، والملّولَ فأضحى رقصة الشمس في الربوع، والصنوبرَ فبات جوقة عصافير، والزيزفونَ فإذ به شذا القلوب العاشقة، والريحانَ فأصبح عطر عرائس المروج، والصفصافَ فصار أكفَّ الريح المصفِّقة والغيومُ السارحة في السماء ترقص على تصفيقها، والحورَ فغدا شلّالات خضرة ومطرًا من الأرض يسقي السماء، وأشجارَ الدلب فصارت عرائس الأنهر العائدة إلى ينابيع القلوب مرتعها الأول، والسروَ فصار نايًا يرفع من الأرض ألحانَ التراب إلى سُحُب الأثير وحُبَّه إلى عرائس الينابيع، والشربينَ فصار قبلةً من الثرى على شفتَيّ الثريّا، أمّا الورد والخزام والليلك والمارغريت فأهديتِها باقاتِ عنبرٍ إلى الأثير وولائمَ عسلٍ إلى نحل الشمس.
قطعة صغيرة من جسد الأرض الممزَّق جعلتِها روح الجنّة الكاملة؛ كقطعة قماش صغيرة من كفن المصلوب وقد صارت ثوب السماء، كجسد إله الخبز والخمر ديونيزوس الممزَّق وقد غدا قلبُه الشمسَ بين يدَيّ الإلهة العظمى أم السموات.
ماذا لم تغرسي في أرضكِ الصغيرة فجعلتِها السماء الرحبة؟! كل زهرة فيها نجمةٌ من نجمات السديم.
روحك كالشمس؛ بيدرُها السماء، حصادُها كواكب الزهر ومواكب الألوان، ودربُ التبانة فيها عبقُ الشذا القاطر عسل النور.
زرعتِ حُبَّ قلبكِ وردًا جوريًا، ونقاءَ سريرتك زنبقَ الوادي، ونورَ عينيك قرنفلًا يحاكي بياضُه الناصع قلبَ الشمس وزبدَ البحر. عشقُ الحياة زرعتِه ياسمينًا يتغلغل في صدر النسيم نفحاتٍ تُحييه، وخيرُ العمل غرستِه حبقًا وخزامًا يعطِّران جبين البِرّ وأيادي الفلاح. وروحُك الجميلة غرستِها شقائقَ نعمان ترتشف دم الإله القيّوم ينبوعَ حياة.
حديقتكِ الجميلة ذرّةُ غبارٍ، وأصغر، في هذا الكون الفسيح. لكنك جعلتِها ذرّةَ نورٍ في قلوبنا وشمسًا تضيء الأكوان؛ ذرّة نور تغلب الظلمات.
في أرض الظلمة زرعتِ شجرة النور، وفي أرض الموت غرستِ شجرة الحياة. لكنك أنت نفسك شجرة الحياة في بستان الحكيم، وفي حديقته أنت زهرةُ الروح ورحيقُ الحكمة. ومن كرمه أنت الدالية الخمرية، دالية العمر، ومن سهله الفسيح سنبلتُه الجميلة.

اترك ردإلغاء الرد

اكتشاف المزيد من نادي الكتاب اللبناني

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version