- حوار مع الأستاذة نقية هاني - ديسمبر 26, 2025
- انوار الثقافة - ديسمبر 26, 2025
- احبك - ديسمبر 26, 2025
كتابة :يوسف طراد
ذاك الوادي، حكاية في البطولة والكرم ولمعة الحقّ. فكم كانت شهوة المكان في تلك الأيّام الحبلى بمعاني الجهاد، لحبر ينطق بخمير الإيمان، ومعاني رحمة للحالمين المريدين قداسة؟.
الأمكنة مخرت عباب الأزمنة، فلكلّ مكان حكاية في زمن مخصّص له ومفصول عن غيره، فإذا جمعنا كلّ حكايات الكتاب، لا نقف على تاريخ الوادي العريق في القداسة. لكنّنا نصل إلى غاية الكاتب في الارتقاء إلى اليقين التّام، والدخول الحتمي إلى التقوى. فالأبعاد النظريّة للإيمان، تبقى في خطر الوهم الذي يغشى عقل الإنسان وروحه، إن لم يلمس عمق هذا الإيمان ورجاحة الفعل بجزالة المعرفة السليمة. هنا يحضر أمامنا ما قاله المرحوم الشاعر أنطوان مالك طوق:
“هادا الوادي بلا عمر
في عمار ما بتنقاس
والوقت مارق عم يلم الناس…
هادا الوادي بلا عمر
حط إدنك عالصخر
يا بتسمع صوت الدهر
يا بتسمع القدّاس”
وتوالت الحكايات خلال الصفحات بعد رحلة المطبعة الصعبة. فكانت قصّة القدّيسة مارينا. وقصّة بطريرك الفلّاحين لوقا البنهراني، وذوده عن منطقة الجبّة بوجه المماليك، ولجوؤه إلى مغارة “عاصي الحدث”. وقصص عن مغاور ومناسك وأديرة مع وصف دقيق لأماكنها ومحتوياتها، نذكر منها: دير قزحيا، سيّدة حوقا، سيّدة قنّوبين، دير مار ليشع… بالإضافة إلى قصص رهبان وعلمانيين غربيّين، وجدوا في هذا الوادي لؤلؤة التقوى، ومكان بهاء الكادحين لإيفاء نذر النسك. وانتهت الحكايات بقصّة أيقونة الأدب اللّبناني والعالمي “جبران خليل جبران”، ووصول جثمانه إلى مثواه الأخير فى دير مار سركيس بشرّي.
كانت الحرّيّة هدفاً من أهداف القصص الواردة في الكتاب، فجعل اسكندر نجّار عقل القارئ، يرتوي من نبضات قلب ظفر بحرّيّة ناسك دنياه محبسة صغيرة: “ليس علينا أن نحقّق أموراً خارقة كي نصبح قدّيسين. فالقداسة تكون في ممارسة التفاصيل الأقل قيمة في الحياة ولكن بمحبّة وبالاتّحاد بالله” (صفحة 158).
هل قال لنا نجّار أنّ الزهد رديفٌ للصمت؟ فما ينتجه الزهد شبيه بلغة الأزهار وهي تتغامز. وما تكشف عنه قسمات الوجوه يمرّ في ثنايا الإحساس. لذلك جعل الكاتب لغة الصمت برامجَ في معاهد الألوهة: “رغب في الصراخ للتعبير عن ألمه، لكنّه امتنع خشية أن يخونه الصدى ويردّد صوته في كلّ الأنحاء” (صفحة 219).
وادي قاديشا جرن عماد، تعمّدت فيه الطائفة المارونيّة، وكان ماؤه الصلاة والنسك والجهاد. ورغم صعوبة الحياة داخله، شبّهه اسكندر نجّار بطريقٍ قويمٍ يؤدّي إلى “الباب الضيّق”. هنا يحضرنا كلام أمين لطف الله في كتاب “براعم الخريف”: “وحده الغبيُّ يَخال الإله طرد آدم وحوّاء من الفردوس وحسب، حين بوجه مَعصيتيهما صرخ: (بعرق جبينكما تأكلان خبزكما). ووحده الفطن يُدرك أنّ الإله، بقولته هذه، دلّ الأدميِّين على طريق العودة إليه!”.
إذا كان الناقد جسراً بين الكاتب والقارئ، فالمترجم هو صلة الوصل ووسيلة تقارب بين الشعوب. لم تلقَ ماري القصيفيّ صعوبة في ترجمة رواية “قاديشا” التي وضعها مؤلّفها باللّغة الفرنسيّة. وعملت على المواءمة بين أصالة نص الكاتب وترجمته، وعالجته بنيويّاً وثقافيّاً حتى أصبح مستساغاً لدى القارىء، لأنّها وضعت من روحها في هذه الترجمة النصيّة للرواية، هي التي نشطت في الإضاءة على المشاكل التي تعاني منها الطائفة المارونيّة، فكان عملها حالة عشق لأنّها دمجت مع النصوص حبّها للمكان الذي حصلت فيه أحداث الرواية، كونه من الأمكنة التي انطلقت منها شعلة الإيمان المارونيّ.
