بين الهندسة الزراعية والعود، وبين الخشبة والصفحة البيضاء، يمشي هذا الفنان كمن يقطع غابة ممتلئة بالأسئلة. لا يشبه أحدًا، ولا يريد أن يشبه أحدًا.
يخلق فوضاه الخاصة… “فوضى منظمة،” تمامًا كما سمّى الفرقة التي أسّسها يوم قرّر أن يواجه العالم بالموسيقى لا بالصوت العالي، وبالكلمة لا بالشجار.

في هذا الحوار الذي أجرته معه الأستاذة رحاب هاني خطّار لموقع نادي الكتاب اللبناني، نعود معه إلى الطفولة، إلى العود، إلى المسرح، إلى لبنان الذي يشبه مسرحية عبثية بلا نهاية…
١-دعنا نبدأ من البدايات… كيف انتقل شاب درس الهندسة الزراعية إلى عالم العود، ومنه إلى الكتابة المسرحية والرواية والإخراج؟ ما الذي دفعك إلى هذا التحوّل الجذري؟

-أؤمن أن على الإنسان العودة إلى طفولته ليعرف ما يحب. أما أنا، فمنذ طفولتي أميل إلى الفن، أحب التعبير بطريقـة أدبية، كنت أنتظر فروض الإنشاء في المدرسة، أسرق عود أبي لأحاول العزف، وقبل معرفتي بالمقامات وأصول التلحين، ألفت أول لحن لأول أغنية.

٢-هل شعرت يومًا أن العود كان خلاصك الداخلي؟ وكيف تشرح علاقتك به اليوم؟

-طبعًا. كل ما كتبت وما ألفت كان تعبيرًا عن شعوري وهروبًا من أعبائي في الحياة. أما اليوم، فالعلاقة بيني وبين العود مبنية على المسؤولية؛ لم يعد آلة للتعبير فقط، بل أصبح، وبكلمة واحدة، نصفي الآخر.

٣-إذا انقطع وتر من عودك فجأة… ماذا تشعر؟ خسارة، امتحان، أم فرصة لتعيد اللحن من جديد؟

-لن ينقطع وتر عودي أبدًا. أنا محب ومتذوق للموسيقى الحساسة، وأي جملة موسيقية تُعزف بأنامل عازف مرهف الإحساس أستمتع بها وكأنها عزفت بأناملي. الفنان الصادق لا يمكن أن يكون أنانيًا، والفن لم يبخل علينا يومًا، والموسيقى لن تموت أبدًا.

٤-في حياتك الفنية تعيش هاجس “لم آخذ حقي في هالبلد”… برأيك، لماذا بلد مثل لبنان لا يعرف كيف يحمي مواهبه؟ وهل هذا الوجع نعمة للفنان أم لعنة؟

-ابتعد لبنان عن حقيقة ثقافته: ثقافة فيروز، وديع الصافي، زياد الرحباني، فيليمون وهبي والكثير غيرهم. ما نسمعه اليوم لا يمثل ثقافتنا. وأعتقد أن اندثار الثقافة الموسيقية والأدبية أمر متعمد وسياسة ممنهجة. لبنان لا يريد الحفاظ على ثقافته، لكنه يعرف كيف يحافظ عليها إذا أراد. وهذا الوجع ليس نعمة، ولا يمكن أن يكون كذلك.

٥-قلتَ إن الفنان يرى ما لا يراه الآخرون… ما أكثر مشهد في الواقع اللبناني يستفزّك فنيًا ويحرضك على الكتابة أو التلحين أو الإخراج؟

-المشهد اللبناني تعدّى حدود الفن والتصور. لم تعد تعرف عن ماذا تكتب: الفساد، المخدرات، الطائفية، البيئة… مشاكل لبنان أكبر من أن تختصر في أغنية أو مسرحية أو قصيدة.

٦-لو أردت أن تُخرج “الحالة اللبنانية” كمسرحية، كيف تتخيّل المشهد الأول؟ صامتًا، صاخبًا أم عبثيًا؟

غابة متصحرة وأسد يبحث عن فريسة… وأتوقع أن لبنان سيصبح مجموعة من الأسود، ولن تبقى فريسة ليتقاسموها.

٧-روايتاك… واحدة منشورة والثانية قيد الإصدار. ماذا تقولان عنك؟

-تقولان عني كل شيء لم أقله، وأقول فيهما كل ما لم ولن أقوله.

٨-أنت تكتب للمسرح، وتلحّن، وتؤدي، وتخرج… أيّ من هذه الفنون يشبهك أكثر؟ وأيّها يريح داخلك حين تتصارع المواهب؟

-أنا بطبعي إنسان ثوري، معارض، منتقد. فما لم أستطع التعبير عنه بقصيدة، أعبر عنه برواية، وما لم أستطع قوله برواية، أقوله بمسرحية أو فيلم أو لوحة. المهم أن أعبر بأي طريقة… لكن الكتابة تبقى الأقرب إلى قلبي.

٩-كثيرون يشبّهون روحك بروح الراحل زياد الرحباني… الذكاء، العبث، النقد اللاذع. هل ترى التشبيه عبئًا أم مصدر قوة؟

-تشبيهي بالراحل زياد الرحباني وسام أعلقه على صدري. أتشرف بأن أذكّر الناس بمن لن يتكرر يومًا، خاصة أنني أسير على النهج نفسه والمبادئ نفسها. لكن الحقيقة أن هذا التشبيه أصبح عبئًا علي، خصوصًا حين أُتَّهم بأنني أقلده، وهذا ليس صحيحًا.

١٠-إذا كان للحياة عنوان مسرحي واحد بالنسبة لك… ماذا تختار؟

“لا شيء يستحق.”

١١-وإذا كنت أنت المخرج… ما النهاية التي تتمنى أن يصل إليها بطل هذه الحياة؟

-نعود إلى السؤال عن المشهد الأول: البطل يسجن الأسود وتعود الغابة خضراء كما كانت.

١٢-كيف ترى اليوم الواقع الثقافي في لبنان؟ وما رسالتك للمعنيين وللجمهور؟

-الواقع الثقافي في لبنان “واقع تحت تاسع أرض”. المعنيون ليسوا بمعنيين بما أقول، ولا يقرؤون ما أكتب.
أما الجمهور، فرسالتي لهم: لنعد إلى الأصول والثقافة التي عرفناها في الستينيات والسبعينيات وحتى أواخر التسعينيات… لنعد إلى ثقافتنا الحقيقية.
١٣-أين تضع الأندية والمنتديات الثقافية اللبنانية اليوم ؟ وهل تراها تقوم بدورها؟

-الأندية الثقافية اليوم تعاني ما يعانيه كل ما هو ثقافي في لبنان: إمكانات ضعيفة، دعم شبه معدوم، ورؤية غائبة. لكنها رغم ذلك تحاول أن تبقى على قيد الحياة. هي نقاط ضوء صغيرة في هذة العتمة، ولو أُعطيت الفرصة، لأعادت لبنان إلى مكانه الطبيعي.

١٤-وما رسالتك لنادي الكتاب اللبناني؟

رسالتي لهم أن يستمروا. أن يحافظوا على نبض الثقافة مهما ضاق الأفق، وأن يتذكروا دائمًا أن لبنان قام على الكلمة، والفكرة، والموسيقى… وعلى نضال المثقفين قبل أي شيء آخر. أنتم روح هذا البلد.

اترك ردإلغاء الرد

اكتشاف المزيد من نادي الكتاب اللبناني

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version