حضور مُقصى و سردية ناقصة

يبدو تاريخ الفلسفة، للوهلة الأولى، وكأنه حكاية ذكورية خالصة. فالأسماء التي رسّختها الذاكرة الفلسفية – من سقراط وأفلاطون وأرسطو إلى ديكارت وكانط ونيتشه – جميعها أسماء رجال. هذا الحضور الطاغي جعل البعض يظن أن الفلسفة ميدان خالص للرجال، وأن المرأة لم يكن لها أي دور يُذكر في بناء الفكر الإنساني. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل غيـاب المرأة عن المشهـد الفلسفي كان عجزًا ذاتيًا، أم نتيجة إقصاء اجتماعي وثقافي طويل الأمد؟

نساء في قلب الفلسفة

على خلاف الصورة السائدة، لم تكن المرأة خارج أسوار الفلسفة. فقد عرف التاريخ شخصيات نسائية أثّرت في مسار الفكر، ولو لم تُسلّط عليها الأضواء كما يجب.

في الحضارات القديمة

برزت في اليونان القديمة فلسفيات مثل ثيانو الكروتونية، وأريتا القورينية، وأسباسيا الميليتية التي يُقال إنها ألهمت أفلاطون في صياغة شخصية ديوتيما في «المأدبة». وفي الهند القديمة، ناقشت غارغي ومايتري قضايا الوجود والمعرفة ضمن نصوص الأوبانيشاد، بينما ظهرت في الصين أسماء لافتة مثل بان جاو وجينغ جيانغ، اللتين تركتا بصمات معرفية في الفكر الكونفوشي.

في الحضارة الإسلامية

كان للفكر الصوفي نصيب مهم في إنتاج رؤى فلسفية عميقة، عبر أسماء مثل رابعة العدوية وعائشة الباعونية. ورغم انتمائهما إلى التصوف، فإن تجربتهما الروحية والفكرية تعكس رؤية فلسفية حول الوجود والمعرفة، وتدل على أن المرأة استطاعت التعبير عن أسئلتها الكبرى في سياقات دينية واجتماعية معقدة.

في العصور الوسطى

تجسّد هيلدغارد من بينغن نموذجًا فريدًا لامرأة جمعت بين اللاهوت والعلوم والموسيقى والفلسفة، بينما قدّمت كريستين دي بيزان نقدًا مبكرًا للخطاب الذكوري السائد، ودافعت في كتابها «مدينة السيدات» عن حق المرأة في الإبداع والمعرفة.

في العصر الحديث

مع اتساع دائرة التعليم، ظهرت أصوات نسائية بارزة في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، مثل ماري وولستونكرافت، المؤسسة الأولى للفكر النسوي، وحنة آرندت في الفلسفة السياسية، وسيمون دي بوفوار التي فتحت الباب واسعًا أمام إعادة السؤال حول الهوية الجندرية في كتابها «الجنس الآخر».

كيف صُنعت سردية ذكورية للفلسفة؟

لم يكن تراجع الحضور النسائي في الفلسفة نتيجة نقص القدرة أو غياب الاهتمام، بل بسبب منظومة اجتماعية حرمت النساء من حق التعليم والمشاركة الحرة في المجال العام. ويمكن تلخيص أبرز العوامل التي جعلت السردية الفلسفية تبدو ذكورية فيما يلي:

الإقصاء التاريخي على مدى قرون، ارتبط التعليم والمؤسسات العلمية بالرجال وحدهم، فيما كانت المرأة محصورة داخل الأدوار المنزلية والأعراف الاجتماعية الصارمة. احتكار رواية التاريخ كتب تاريخ الفلسفة رجال، فاختفى من السرد الكثير من الأسماء النسائية، حتى حين كانت مؤثرة في عصرها. المشكلة ليست فقط في الغياب، بل في تغييب جهود تمت بالفعل. التنشئة الثقافية وُجّهت النساء نحو مجالات “مقبولة اجتماعيًا”، فيما قُدّم التفلسف كعلامة على العبقرية الذكورية. الأدوار الاجتماعية القسرية حدّت من مساحة التفكير الحر. تحولات مكانة الفلسفة حين تراجعت الفلسفة أمام العلوم الطبيعية والتطبيقية، دخلت النساء بقوة في التعليم والأكاديميا، مما يجعل حضورهن اليوم ملموسًا أكثر من أي وقت مضى.

إعادة الاعتبار لصوت المرأة

إن السؤال اليوم ليس: هل تستطيع المرأة التفلسف؟ بل: لماذا لم يُنقل إلينا تاريخها الفلسفي كما هو؟ النساء اللواتي عرفهن التاريخ أثبتن، كلما أتيح لهن التعليم وحرية التعبير، أنهن قادرات على طرح الأسئلة الكبرى حول الوجود والمعرفة والقيم، تمامًا كما فعل الفلاسفة الرجال.

إن سردية الفلسفة كما نعرفها اليوم ليست مرآة كاملة للحقيقة، بل جزء من رواية كُتبت بمنظورٍ واحد. وإعادة كتابة تاريخ الفلسفة لا تعني تمجيد المرأة على حساب الرجل، بل فتح المجال أمام قراءة عادلة تعترف بدورها، وتفكك الروايات التقليدية التي كرّست احتكارًا ذكوريًا للمعرفة.

خاتمة

لم تكن المرأة غائبة عن الفلسفة، بقدر ما كانت مغيبة في الكتب والمناهج والذاكرة الجماعية. ومع تراجع القيود الاجتماعية وازدياد فرص التعليم، يزداد حضور المرأة في الفلسفة اليوم، سواء في الأكاديميا أو في الحقول البحثية والفكرية المعاصرة. إن مستقبل الفلسفة لن يكون تكرارًا للرواية القديمة، بل قراءة جديدة تعترف بأن العقل الإنساني لا جنس له، وأن الإبداع الفلسفي يتجاوز الفوارق الجندرية عندما تتاح الفرص وتتحقق العدالة المعرفية

اترك ردإلغاء الرد

اكتشاف المزيد من نادي الكتاب اللبناني

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version