بقلم هند نصر

البوصلة
ذات مرة ربما عن طريق الصدفة ، أو عن طريق الخطأ . هبط مخلوق غريب من كوكب آخر إلى كوكب الأرض .
هو يشبه الإنسان كثيرا . مع إختلاف بسيط. فحدقتا عيناه واسعتان تأخذان شكل الطول بوسعهما .

أذناه صغيرتان مفتولتان قليلا إلى الوراء . جسده صغير جداً . ربما نرى مثله في برامج الأطفال أو الرسوم المتحركة .
هذا المخلوق الجميل ، طبعاً ليس له أسم ، سأسميه ” نور ” .
مخلوقنا نور أتى كما خلقه الله ، لا يرتد ثياب ، لا يأكل ، لا يشرب ، فقط معلق في عنقة بوصلة تدله إلى الجهة التي أتى منها إذا أراد العودة ، فبدونها يفقد الإتصال بالمكان الذي أتى منه .
فور هبوطه على الأرض ، أول من صادفه فلاح معه سيارة خاصة لمزرعته ، أختطف البوصلة من عنقه ، وأعطاه آلة تسجيل كبيرة كما كانت في الماضي بدلاً عن البوصلة كانت معه في السيارة .
حملها نور لا يدري ما هذه ؟ وماذا يفعل بها ؟ والمزارع تركه حائراً !
لا يستطيع العودة من حيث أتى ، ولا يعرف كيف يتصرف هنا، وأصبح كالضائع والتائه في عالم يجهله .
أما الفلاح أخذ البوصلة إلى كاهن المدينة وباعه إياها بمبلغ زهيد.
وضع الكاهن البوصلة في اكبر صالة في المعبد ، وكم كانت دهشته كبيرة عندما رأى نوراً مشعاً في المكان الذي وضعها فيه . وذاع الخبر في المنطقة ، وهرعت الناس لمشاهدة النور ، ولأخذ البركة من الكاهن الذي أكرمه الله ووصل لحالة التنوير الإلهي ، فمنهم من حمل الورود ، ومنهم من أحضر الهدايا النفيسة ، ومنهم من حمل الزيوت والشموع ليباركها الكاهن ، ووزعت عليهم شرائط من ثياب الكاهن لوضعها بركة في بيوتهم . وتوافدت الناس من المناطق المجاورة من جميع المذاهب ، لترى بأم عينها الأعجوبة التي ظهرت في هذا المعبد ، ومع الكاهن القديس .
وبدأت المرضى تأتي إلى الكاهن طالبة أعجوبة الشفاء ، وأصبح هناك مساعدين كثر يسجلون الأسماء ، وليس المرضى فقط . فالذين يريدون الوظائف ، والذين يريدون أن يرزقوا بأطفال ، والذين يريدون أن تتحسن أحوالهم المالية ، والذين يريدون حلولاً لمشاكلهم العالقة . والذين يطلبون السعادة . حتى أصبح الكاهن جزاه الله خيراً لا وقت لديه لتناول طعامه احيانا .
نعود لمخلوقنا الجميل نور بعد مكوثه وقتا قصيراً على الأرض تعلم من مرافقته لبعض البشر ، لبس الثياب ، وبدأ يتذوق الطعام بكميات قليلة جدا ، لانه غير معتاد على الطعام والشراب . فكم أحب طعم الشوكولا ، والبوظة ، والجبنة ، والبيتزا ، أيضاً تعلم بعض حيل الإنسان ، حيث قبضت عليه الشرطة وهو يتبول في مكان عام وقادته إلى السجن ليلتها وهذا كان قصده من وراء هذا العمل المخل بالأداب فقط أستطاع أن يؤمن مكانا يبيت فيه ليلته . وبدأ يتعرف على الناس ، حيث كان يلفت انتباههم شكله الغريب . ويحل لهم مشاكلهم فهو المتنور فكان يقدم الشفاء لمن كان بحاجة ، حيث عنده قوة حدس وبصيرة لكن لم يتكلم عن نفسه حتى عندما يسأل من انت؟ فكم كان يترك علامات إستفهام عند الكثيرين . ويحتارون به كيف يعرف عنهم ويعطيهم الحلول المناسبة دون أن يقولوا له ما بهم .
إلى أن تعرف على فتاة جميلة ، ذكية ، تحضر لأطروحة الدكتورة في الإعلام .
أحبته وأسكنته معها في سكنها القريب من جامعتها . حيث كانت تستفيد منه ، فكان يساعدها ويقوم بتسجيل صوتها في المقابلات التي تقوم بها . وأخفى عنها أنه أحبها وأحب كل شيء فيها ، وكل شيء تعمله . فليس غريباً هي غاية في الجمال وشفافة ، وهو أصبح على كوكب الأرض من الطبيعي أن يحب ، ونسي العالم الذي أتى منه .
بالرغم من حبه لها ، فإن لطافته وشفافيته ، ومحبته الغالبة على حبه . وهذا هو الحب الحقيقي .
أخبرها أن حبيبها الذي أفترقت عنه،
بسوء فهم ، ولعبة حيكت لهما من قبل الكاهن ووالدها . بهدف تزويجها من ابن الكاهن الذي رفضته ، وبقيت عزباء لم تتزوج . وقال لها أنهما كذبا عليها حين إتفقت مع حبيبها على موعد لقائهما واتفقا على اليوم والمكان والساعة ، هي تذهب بفستان الزفاف، وهو ببدلة العرس ، ايضا قال لها نور : أن والدك غير موافق على الشاب الذي تحبينه . بحجة انك ستسافرين وتبتعدين عنه إلى بلد آخر . اتفق مع الكاهن على لعبة اخرى وصولك على الموعد المحدد . أتى حبيبك على الموعد ، انتظر طويلا بفارغ الصبر ، حتى تملكه اليأس وظن انك لا تريديه وإلا لكان وجدك حسب الإتفاق بينكما. بعد انصرافه وصلت انت كانت صدمة كبيرة لك حين لم تجديه بإنتظارك . وظننت أنه لم يكن جاداً ، ولا صادقاً . ولم تعرفا انت وهو أن موأمرة حيكت لكما مليئة بالمكر ، والكذب. والخداع ..
أما انت وهو كنتما صادقان . لكن هنا أتوقف لاقول : اين محبة والدك الذي لم يسأل عنك ، وكيف له أن يكسر قلبك بهذا الشكل ؟
حبيبك حتى الآن لم يتزوج ، ولم يحب غيرك ، ولا زال عنده أمل أن تتصلي به . وانت لم تتزوجي ولم تحبي غيره ولم تنسه ابدا ، بالرغم من عتبك عليه ، وغضبك منه . كيف اخلف وعده معك . هنا أتعجب انتم البشر على كوكب الأرض ، كيف تتمسكون ب ” الأنا ” وهذا هو سبب هلاككم . لو حاولت الإتصال به أو هو إتصل بك لعرفتم عدم لقائكما ليس لكما يد فيه . لكن الكبرياء ، والأنا ، والكرامة ، يهلككم ، وهذا سبب تعاستكم ، فلا تتنازلوا عن عادات ، وتقاليد بالية احيانا ، لكنكم تبرمجتم عليها منذ صغركم .
هيا اتصلي بحبيبك ، إذا كان لا زال عندك عنوانه .
سألت عن عنوان السفارة التي يعمل بها . واتصلت
وعندما سمع صوتها وهي تسأل السكرتيرة عنه إذا كان لا يزال هنا ، اغمي عليه بعد أن اسعفوه وتكلم معها ، عادت إليه الروح .
خمسة عشر عاماً ينتظر هذه اللحظة ، وبعد أن تعاتبا ووضحت الأمور . اتفقا مجدد أن يلتقيا في نفس المكان لكي يعقدا قرانهما .
عادت بعد اتصالها لتغمر نور غمرة كبيرة والدموع تنهمر من عينيها .
وفوراً أرادت أن تذهب إلى الكاهن لتصب غضب الخمسة عشر عاما من العذاب ذهب معها نور لكي يستعيد بوصلته لانه كان يعلم أنها هناك .
وصلا ليريا الكاهن يجلس على كرسي مصنوع من الذهب ، ويرتدي ثوبا مشغولا ومطرزا بخيطان ايضا من الذهب . و الدها يجلس بجانبه في أبهى الثياب والفخامة .
أخبرتهم أنها عرفت بالموأمرة القذرة التي دبراها لها. وعلا
صوتها عليهما ، ولم تدر اي الكلام الذي قالته لهما ، حتى تعجب الناس كيف تتجرأ وتتكلم معهما هكذا ، وخاصة الكاهن
المتنور .
تقدم نور أخذ بوصلته ، وضعها في عنقه . أظلم المكان . واختفى النور من الصالة .
والآن حان موعد الوداع . نور سيعود من حيث أتى . اصبح يعرف وجهته التي أتى منها .
شيئا حزينا كان يخفيه .
كيف سيبتعد عن جميلته التي أحبها ؟؟
والتي هي فعلا اسما على مسمى . فهي فائقة الجمال . وتأسر
قلب كل من رآها. لكن شفافيته ولطافته . ” ومحبته الغير مشروطة ” أبت عليه الا أن يجمعها بمن تحب .
وهذا هو الحب الحقيقي أو ” المحبة الإلهية ” والتخلي عن
(الأنا) الفردية .
قالت له :لماذا تأخذ آلة التسجيل معك ؟
وهذه الشنطة المليئة بالكاساتات ؟؟
أجابها : لأني احببتها فآلةالتسجيل اول شيء تعرفت إليه عند وصولي إلى كوكب الأرض. إبتسمت لأنه يكذب . هي تعلم ليس لهذا السبب . أخذها ليسمع صوتها كلما اشتاق إليها.
غمرته ثانية والدموع تنهمر من عينيها . تمنى لها حياة مليئة
بالحب ،والنقاء ، والسعادة . وكان سعيداً جدا وكأنه أتى خصيصا من عالمه الآخر ليعطيها سعادتها التي أخذت منها من أقرب الناس لها .
أما الكاهن المسكين إختفى نوره ، والناس التي كانت تركع أمامه ، وتقبل يديه . منهم من غادر وهو مصدوم ، غير مصدق بالحدث . ومنهم من فهم وأتته لحظة ( الوعي )
وفهم أن كل إنسان عليه ان يتبع عقله . يثق بذاته . ويتوقف عن الركض وراء اوهام وأكاذيب . ويترك العادات والتقاليد خاصة التي هي غير صحيحة ، لكنه تبرمج عليها منذ صغره .
أيها المخلوق على كوكب الأرض . ثق بخالقك فقط . واتبع النور الذي بداخلك . وثق بأهميتك ، لا بأهمية غيرك …

هند نصر / لبنان

اترك ردإلغاء الرد

اكتشاف المزيد من نادي الكتاب اللبناني

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version