بقلم هناء نجيمة
نحن !! من نحن؟؟و إلى ماذا و إلى من ننتمي؟؟
أنا لست معطى بديهيا أبدا . و البعض ممن هم مثلي، هم كذلك… ليسوا معطى بديهيا أبدا.
حين أقول أنا أو نحن، فإنني و هم، لسنا بالضرورة هنا.
لست موجودة حتما حين أقول أنا.
أنا لمن أنتمي؟؟ لنفسي؟؟ للوطن؟؟ لهذا العالم؟؟ أم للدولة؟؟؟
ثم لا تسألني أين تقع دولة السكر و لا تسألني أين تقع دولة الملح؟؟؟ فلافرق بينهما عندي، إذ تقعان في نفس الزاوية من نفس الركن ذاك.
في ذاك الركن انتظرته ساعات ليكتب و لم يفعل. جاء و غاب. فاصل طويل فصلني عنه و فصله عني و الفواصل عديدة لا أعلم أيا منها كان سببا في غيبته. و مع هذا كنت أحس به. كان رأسي مثقلا به طوال اليوم.
قهوتي الأولى في ذات المقهى “بباب بحر” ، قهوتي الثانية صحبة صديقتي في البحر ، زيارتي لمحل للملابس المستعملة و تغيير ثيابي الجديدة الباهظة نسبيا و إستبدالها بملابس مستعملة ، دخولي للمحل بشكل و خروجي منه بشكل آخر مختلف و ما صاحب ذلك من غبطة الأطفال اثر القيام بمغامرة شقية، …
كل هذا لم يثني كلانا عن التفكير. كنت معه و الحقيقة أنه كان معي طوال اليوم. يلازمني كأرق، أو كحزن أسود فاحم. كنت أحس به في مكان ما من جوفي ، بين بطني و معدتي . لا أستطيع أن أحدد المكان لكن شيء ما كان جاثما، أو متحركا بداخلي و كأن جنينا لا يد لي فيه، وضع و يحاول الخروج للسطح . كأنه ذات القيء الذي يريد أن ينساب مني ، من أعماق رأسي … لكنه يأبى الخروج و يأبى المكوث، يأبى الداخل و الخارج، يأبى الظلام و النور ، يأبى نفسي و لا يروم البقاء فيها.
لعله هذه المرة كان يعلم مصيره فكان يأبى مدن الملح التي تنتظره… كم يشبهني هذا الجنين الغريب، كم يشبهني هذا النص النافر، الهارب من كل شيء … من نفسه و من نفسي ، من الأوراق، من الهاتف ، الهارب دائماحيث اللامكان.
ربما صار يعرف الآن بأنه لا ينتمي.
كم أكره هذه الكلمة “ينتمي” لانها تحيلني الى فرضية الضد. و أعتذر لأنني أقول أكره أن أقول” أكره” و لكنني أكررها للمرة الثانية . لا أعرف لماذا؟ على أية حال ، و في جميع الأحوال ، مازلت أكره الكره لأنه عدو للحب. ولكن لماذا صرت أذهب في لغتي لكلمة أكره ؟؟ ألأن تفكيري مشوش؟؟ أم لأنني في هذا الفراغ مملؤة بالقنوط ؟ قنوط من ااحب؟؟ فليكن ذلك، المهم أني مازلت بخير حين أخاف من هذا الإستعمال بما يفيد بأني مازلت على درجة ما ، ولعلها قصوى، من القناعة بلاجدوى الكره و هو ما يفيد بأنني لم أسلم بعد بلا جدوى الحب و إن صرت منه في يأس.
وما همي انا منه الآن هذا اللعين ؟ أ مازال يقتحمني ليبدد نصي و يبعثر أوراقه و حروفه؟؟ أمازال يقتحمني بالغياب حتى ، و يمنعني من النوم؟؟ أمازال مصرا على ترحيل نصي الذي لا يريد أن يكتب إلى المنفى ليصير لاجئا ، لا ينتمي ، مثلي؟؟
أنا الآن لا أنتمي، لا أنتمي لكل شيء و لا أنتمي لأحد . أرأيتم لماذا أكره هذه الكلمة لأنها تحملني إلى الرياضيات التي صرت اليوم لا أكرهها.
ماذا لو كنت أجيد الرياضيات؟؟ أعتقد بأنني لو كنت كذلك لما وقفت اليوم و الساعة الثالثة و النصف صباحا لأكتب نصا لا ينتمي لشيء و لا حتى لمنطق النصوص. ، نصا كتب فاتحته في صباح اليوم الماضي و ظل يطاردني ساعات و ساعات حتى استوى دفعة واحدة بعد أن تهيأ جيدا لمواجهة الحياة في مدن الملح. نصا استوى و نضج بوعي أنه هو أيضا لا ينتمي لا لنفسه المثقلة و لا للعالم الظالم، الصامت ، القاسي الذي يسحقك أن توقفت برهة لتلتقط أنفاسك و لا للوطن الذي لا طالما شعرت بأنه لم يخذلك يوما و انه كان وعائك عند السقوط.
هو لا ينتمي لشيء و لالأحد. ها قد صار ذاك اللانتماء واقعا و له أن ينتمي الآن للدولة . وحدها تليق به و وحدها جاذبة و مستحوذة على كل اللامنتمين.
اللامنتمون أولئك الأخيار ، نخبة الأخيار، يلقون المحاضرات ليلا و نهار عن العدل و المساواة، عن الحريات، عن القانون ، عن العلم عن الجبايات، عن الشرع، عن القرآن ، عن جدوى التفكير و اتفلسف بما يخدم الدولة، المصلحة العليا للدولة، الدولة الماكرة التي تقول أنا الوطن. .. عن دكتاتورية الدولة و عن ظلم الدولة و عن فساد الدولة.
اللامنتمون، أولئك الأخيار ، نخبة الأخيار من الشعب المظلوم ، الباكي ليلاو نهار . الشعب المسروقة ثرواته و المنهوبة أمواله، المسترسل في ترسيخ ذات الصورة، الواهم بأنه الضحية ، بأنه الضعيف ، الطيب، المعتدى عليه … السارق لساعات العمل يوم الجمعة حتى يصلي صلاة الجمعة، السارق لاوراق الإدارة ، لأقلام الإدارة لكل الممتلكات البسيطة للإدارة، لسيارة الإدارة … اللامبالي بالإنارة بالماء ، بالكهرباء، بكل الطاقات.
اللامنتمون، أولئك الكادحون المنتصبون في الشوارع ، أمام الإدارة ، وراء الإدارة، في الإدارة حتى، يبيعون و يتهربون من الأداءات ، كل الأداءات فهم الكادحون فلماذا و بأي حق يدفعون ؟؟ الكادحون ،التائهون ، المهربون ، الهاربون.
على هذا النحو يكون الانتماء في دول الملح و السكر، حيث اللامنتمون يبكون دون ملح. يعصون بطاعة ، طاعة ناعمة ، أفاقة، و يطيعون شياطينهم بحب مالح. يرصفون كالأصنام و يتبادلون الحب بأبتسامات مائعة، باردة ، زرقاء و بنفسجية.
هناك حيث الجميع يتكلم العربية بركاكة لتصير هجينة لاجئة. هناك، في دول الملح قد تقف حائرا أمام طوابير لا رأس لها و لا نظام فيها، طوابير يقفون فيها كسياراتهم في فوضاهم السعيدة و يوقفون السير العادي و يترصفون أمام محل السنفاج يمننون بطونهم بفطيرة الصباح المليئة بزيت كريه، يطلق عليه في دول الملح بزيت “الحاكم” و لا أعلم حقا حكمة هذه التسمية ، أ لثمنه الزهيد ربما أو لحنان الحاكم و حنوه الضافي على المحكومين اللذين صاروا زيتا لا منافع فيه.
. هناك حيث الصباح يأتي متأخرا ، متثاقلا لا حياة فيه و لا نور ، حيث الجميع مواطن دون وطن. و حيث المواطنون درجات كالسلم.
ماذا بعد؟؟ ألا يكفي؟؟
أنه ينزل الآن بعد عسر، من الخاصرة. انه ينزل بعد أن أنهكني لعسر هضم الحب في قلوب ميتة أو من لوعة الحياة بلا انتماء في دول الملح. إني أراه بعد أن استقر أثرا. نص يكتب، مازال يكتب و أخشى أن يكتب أكثر و كم أخشى أن لا يكتب كاملا.
تقابلت عينانا. لم يتكلم و لم أتكلم. هاهو يضع يده تارة على عينيه و أخرى على فمه كأنه لا يريد أن يرى، أو حتى يمنع نفسه عن الكلام ، مدعيا في هذا طرد الذباب في دولة الملح.
في دولة الملح هذه، جاء الشتاء متأخرا إلا أن الذباب مازال عالقا برغم انتحار السكر. رأيته . كان نصا منهكا مثلي و تنبهت لقسوة اللحظة التي يكابدها، لحظة نزوله تلك ، ذكرتني بهول الصدمة عند النزول بعد إدراكي بوعي بأنني لا أنتمي، أو صرت لا أنتمي… بعد أن انتحر الحب بداخلي و انتحرت أناحين هممت لأنقذه من الإنتحار.
أرأيتم كم هو خطير الحب. كم هو جميل، حلو ، مر ، لعين …
كم هو جد و كم هو بعيد جدا أن يكون ترفا روحيا أو جسديا.
و يبقى الحب مهما في حضوره مرة و مرة و مرة و مهم جدا في غيابه ألف مرة و مرة.
ففي حضوره كنت أنعم بدفئ الوطن. حينها كنت أنتمي للتراب و في غيابه صرت أنعم بجحيم الدولة و صرت لا أنتمي، بل أنتمي للملح الناصع البياض كالأكفان.
كل هذا يحدث حين تعي بأن الحب، ككل الأشياء الرائعة لا وجود لها و لا وجود له؛ أو بالأحرى لفرط طهرها لا يسعها عالم غبي غير قادر على استيعاب الجمال وفضل الغياب، تماما كالحقيقة و تماما كالوطن الموجود فينا لكنه فضل الغياب أو الاختفاء إلى حين صدور أحكام دول الملح الآثمة.
الملح و السكر ، في أذهان البعض لا يتشابهان إلا في البياض و الحال أنهما متشابهان في كل شيء، حتى في المذاق الحامل للسم و الموت. و هكذا هو الحب في مدن الملح البعيدة، في مدن السكر السعيدة. في جهل مقدس. و هكذا يولد نص نفسه بنفسه في دول الملح و السكر.
نص يكتب، مازال يكتب، و أخشى أن لا يكتب و كم أخشى أن يكتب كاملا.
- أطول جملة في “البؤساء” للكاتب ڤيكتور هيجو - ديسمبر 23, 2025
- حوار مع الشاعرة رانيا مرعي - ديسمبر 23, 2025
- اللغة بين قلق الأكاديميين و هشاشة المستهلكين - ديسمبر 14, 2025
