Latest posts by Roger Saad (see all)

بقلم فاروق غانم خداج

كاتب لبناني وباحث في الادب والفكر الانساني

في صَباحٍ نَدِيٍّ من صباحاتِ الرِّيفِ، كانَ الفلّاحُ يتنقّلُ بينَ صفوفِ الزَّرْعِ بِبُطْءٍ، كأنَّهُ يمرُّ على أبنائِهِ واحدًا واحدًا عيناهُ تُفْحَصانِ الأوراقَ، ويداه تَمسحانِ الغُبارَ عن وجهِ الأرضِ كما تَمسحُ أُمٌّ شعرَ طِفْلِها النّائمِ.وفجأةً، توقَّفَتْ عَيناهُ عندَ حَبَّةٍ من الفَراوِلَةِ، مُخْتَلِفَةٍ بعضَ الشيءِ.ليستْ خارقةَ الحَجْمِ، لكنَّ فيها امْتِلَاءً لافِتًا، ولَوْنًا أعمقَ، وبَريقًا رَطْبًا كأنَّهُ قُبْلَةُ الفَجْرِ على خدِّ الحَقْلِ.رَفَعَها بينَ أصابعِهِ بِخُشوعٍ، وتأمَّلَها كما يَتأمَّلُ شاعِرٌ بيتًا شِعريًّا سَقَطَ عليهِ منَ السَّماءِ.قالَ:”ما شاءَ الله! كأنَّكِ كَبِرْتِ أكثرَ من أخواتِكِ بِقَلْبٍ لا بِماءٍ فقط.”سَكَتَتِ الفَراوِلَةُ لحظةً، ثمَّ هَمَسَتْ بصوتٍ دافئٍ، يُشْبِهُ صَوْتَ الأرضِ حينَ تَتَكلَّمُ:”أنا يا عَمِّي… صُورَةٌ من تَعَبِكَ.كَبِرْتُ لأنَّكَ سَقَيْتَني بِعَيْنَيْكَ، ولَمَسْتَني بِيَدٍ تَعْرِفُ مَعْنَى الزَّرْعِ.كُلُّ ما فيَّ من حَلاوَةٍ هوَ من وَجَعِكَ الصَّامِتِ… لا منَ الأسْمِدَةِ.”هَزَّ الفلّاحُ رَأْسَهُ، وقالَ:”كَثيرُونَ سَيَأْكُلُونَكِ دونَ أنْ يَعْلَمُوا أنَّكِ نَبَتْتِ من تُرابٍ فيهِ دَمْعٌ، لا ماءٌ فقط.”ضَحِكَتِ الفَراوِلَةُ وقالَتْ:”وهذا يَكْفيني. لَسْتُ الأكبرَ، لكنَّني شاهِدَةٌ.فَوْقي رائِحَةُ الأرضِ، وتَحْتَ قِشْرَتي حِكايَةُ تَعَبٍ.”ثمَّ نَظَرَتْ إلى صُنْدوقٍ صَغيرٍ وُضِعَتْ فيهِ بعضُ حَبّاتِ الفَراوِلَةِ المُسْتورَدَةِ.ناعِمَةُ المَلْمَسِ، مُتَشابِهَةٌ، لا رائِحَةَ لها، ولا صَوْتَ في لَوْنِها.قالتْ:”هُنَّ يُشْبِهْنَ بَعْضَهُنَّ، لكنْ لا يُشْبِهْنَ الأرضَ.أُنتِجْنَ في بُيوتٍ زُجاجِيَّةٍ، بلا طِينٍ، بلا أُغْنِيَةٍ، بلا يَدٍ حَنُونَةٍ.”أَغْمَضَ الفلّاحُ عَيْنَيْهِ لحظةً، ثمَّ وَضَعَ الحَبَّةَ في قُفَّتِهِ مع غيرِها منَ الثِّمَارِ،وَهَمَسَ:”اِذْهَبي، وقُولِي للناسِ: لَسْنَا فُقَراءَ…نَحْنُ نُخْرِجُ منَ الأرضِ أَجْمَلَ ما فيها،لكنَّ مَنْ يَبِيعُنا، لا يَسْمَعُ صَوْتَ الزَّرْعِ حينَ يَتَكلَّمُ.”ثمَّ مَشَى، يَحْمِلُ قُفَّتَهُ كأنَّها قَصيدَةٌ،وفيها…ثِمارٌ صادِقَةٌ، لا تَخْدَعُكَ بِبَريقِها،لكنَّها تَقُولُ لكَ بِلُغَةٍ بَسيطَةٍ:”هَذا طَعْمُ أَرْضٍ تَعِبَتْ… ولَمْ تَخُنْ.”

By Roger Saad

ناشط بيئي

اترك ردإلغاء الرد

اكتشاف المزيد من نادي الكتاب اللبناني

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version