Latest posts by Roger Saad (see all)

في إطار الأنشطة الفكرية لنادي الكتاب اللبناني، وانطلاقًا من حرصنا على تسليط الضوء على التجارب الإبداعية المتنوّعة، أجرت الأستاذة رحاب هاني خطار حوارًا خاصًا مع الكاتب والصحافي والرسّام عبد الحليم حمّوّد، الذي فتح لنا نوافذَ على تجربته الغنيّة، متنقّلًا بين الكلمة والخطّ واللون، ومستعرضًا ملامح مسيرته وتحوّلاته الإبداعية.

حوارٌ يتجاوز المألوف، يضيء على جوهر التجربة، ويمنح القارئ فرصة للغوص في فكرٍ يتقاطع فيه الإبداع مع التأمل، والهوية مع الدهشة.
إليكم أبرز ما جاء في الحوار

رحاب هاني :في زمن الأزمات المتتالية، هل تكتب لأنك تختنق، أم لأنك تتنفّس؟

عبد الحليم حمود: أتجنّب فعل الكتابة حين يكون مقترنًا بسبب، بحجّة، برغبة، بهدف، لأن العلّة سكين تغمد في اللذة لأن النية كمّامة على فم الشهوة، لأن القصد تابوت صغير للتيه. أكتب لأن الحبر هو الجزء الظاهر من دماغي، لأن رأسي يمطر كلمات لا ملجأ لها إلا الورق، لأن الجمجمة ليست مخزنًا بل فخًّا للروائح القديمة. أفرغ حمولتي في الخارج حتى لا تتكدّس، حتى لا تنبت أعشاب فاسدة في دهاليز الذاكرة. نعم، قد تؤثّر الأحداث في مضامين نصوصي، لكن لا على طريقة الصحفي المهذّب، بل على طريقة العصفور الذي يرتطم بزجاج النافذة فيكتب بدمه عنوان القصيدة. التفاعل قانون بديهي، نعم، لكنّي لا أنتمي إلى الكلّ كأصبع في يد، بل كجرح في ساق طافية. إن الدماغ حقل مغطّى بالمجسات، والحياة تطلق إشاراتها كما لو كانت صاعقة في سماء التكرار، وحين تلمس تلك الشرارةُ عقلي، لا أشرح ما جرى، بل أنزف شكلًا جديدًا من العواء.

رحاب هاني: الغزارة الأدبية التي تميّزك، أهي فعل مواجهة ، أم عادة؟

عبد الحليم حمود: أنا متفرّغ للكتابة والرسم، لكن لنتفق أن هذا “التفرّغ” ليس رومانسية العزلة التي يتغنى بها الشعراء؛ إنه ليّ للظروف، تحوير لحياتي اليومية لتخدم وضعيتي ككائن يختبئ كي يرى بوضوح. من داخل هذا التموضع السكوني – الذي قد يبدو كسلاً للآخرين – أحظى بنعمة الانتباه: أراقب التفاصيل التي يُقال عنها “تافهة” وأحوّلها إلى ألغام صغيرة في النص. تقريبًا، جلّ ما أكتب هو سلسلة من لحظات انتباه لمفارقات نمرّ عليها بلا اكتراث: الإيماءات، العبارات المهملة، النكات السخيفة، وحتى الأخطاء التي تكشف أكثر مما تريد. إنها ثمار شجرة “التفاهات”، لكنني أقطفها لا لأجعلها سامقة وجميلة، بل لأكشف كيف يمكن للتافه أن يكون أكثر صدقًا من “العميق”.

رحاب هاني : ما الفرق بين أن تكتب فكرة، وبين أن ترسمها؟

عبد الحليم حمود: الرسم لا يقول كل شيء، لكنه لا يصمت أيضًا.إنه يترك المعنى يتسرب من بين ضربات اللون، كأن الألوان جسور نحو غيبيات لا تُمسك، نحو مختبر الخيال والشعر والمجاز والرؤية. أما الكتابة، فهي فعل آخر: خاصيّة القول والشرح، تقديم الأمثلة، تطويع المنطق ليُثبت ما يُظن أنه فكرة. لكن هذا الفرق ليس فاصلاً صلبًا؛ فالكلمة حين ترسم تصير صورة، والخطوط حين تكتب تتحوّل إلى خطاب. في فن الكاريكاتور، الذي عبرته لأدخل عالم الصحافة منذ أكثر من ثلاثين عامًا، تتقاطع المسافتان: الرسم يقول بذكاء ما تعجز اللغة عن قوله، واللغة تسكن مكرًا في البياض بين الخطوط، حيث المعنى دائمًا مؤجَّل، مؤجَّل مثل الحقيقة نفسها.

رحاب هاني: هل حدث أن مزّقت ما كتبت

عبد الحليم حمود: الأرقى من فعل التمزيق هو فعل التصحيح، والتعديل، والإضافة؛ فالنص، في جوهره، ليس وحدة مغلقة بل كائن حيّ يتشكّل باستمرار. الكتابة ليست فعلًا نهائيًا، بل سيرورة سلطة على اللغة: نعيد توزيع مقاطعها، نقتطع، نزرع، نُحوّل، كأننا نمارس جراحة دقيقة على جسد حي. وهنا يظهر الفارق الجوهري بين الكتابة على الورق، بوصفها أثرًا ساكنًا يتشكل في لحظة نهائية، والكتابة عبر الكمبيوتر، التي تمنح النص مرونة جديدة، وتجعل منه أرشيفًا متحركًا؛ فضاءً يسمح بإعادة ترتيب المعنى وفق إحداثيات أخرى، دون أن نحتاج إلى بترٍ أو إلغاء، بل إلى إعادة تشكيل خريطة القول نفسها.

رحاب هاني :برأيك، هل تمنح الذاكرة المساحة ذاتها للفرح كما للحزن؟

عبد الحليم حمود: أفضل استبدال الفرح بالرضا؛ فالفرح انفجار عابر، أما الرضا فهو تكيّف طويل الأمد مع شروط الحياة. هنا أجد نفسي قريبًا مما قاله أبيقور عن توليد السعادة في المساحة العادية من اليوميات المستقرة: لحظة بلا جوع، بلا كبت، بلا نعس. هكذا يصبح الإنسان في معظم وقته كائنًا راضيًا، بينما الحزن يقتحم الذات كاستجابة استثنائية لمرض، أو فقد، أو طعنة معنوية في الظهر. ومن هنا، يرسخ الحزن بوصفه الاستثناء العابث في جبلتنا؛ حدثًا يخلخل الروتين الذي يشكل بنية الأمان النفسي. الذاكرة، وفق آلية أشبه بالمنبّهات الشرطية التي تحدث عنها بافلوف، لا تحفظ الفرح بقدر ما تختزن الأحزان، لأن الألم يثير فينا يقظة أولية، ويعيد تشكيل استجاباتنا. إنه درس غريزي يحرّضنا العقل على حفظه، وإعادة إنتاجه كتحذير ضمني يجنّبنا تكرار الألم حيث يكون تجاوزه ممكنًا.

٠رحاب هاني: هل هناك لحظة صمت تخاف منها؟

عبد الحليم حمود: أهم ما منحَتْني المعرفة هو تلك المصالحات الخفية التي أعقدها مع ذاتي في دهاليز اللاوعي، كي أقبل الوجود كما هو: منظومة من القسوة المرمّزة، والعدالة الغائبة، والخضوع لإيقاع المصادفات والانتماءات والحظوظ. حين نفهم قوانين هذا الكوكب لا كحقائق جامدة، بل كأطر تعكس رموزنا الداخلية، نفكّك القنابل المزروعة في أرواحنا؛ تلك الشحنات التي تُشعل الغيظ لأننا لم نتصالح مع “ظلّنا” بعد. المعرفة هنا ليست تراكمًا للمفاهيم، بل تحليلٌ للرغبات التي تحرّكنا من وراء ستار، واستبصارٌ بالصور البدائية التي تتناسل فينا منذ أقدم الأزمنة.

رحاب هاني: أيهما يملي على قلمك أن يخط: الغياب أم الامتلاء؟

عبد الحليم حمود: في الغياب تكمن الكيانات السحرية التي لا تخضع لإملاءات الزمن، هناك حيث يتشظّى المعنى ويتحرر الوجود من فجاجة اليوميّات التي تستعبدنا بسطحيتها. الامتلاء، على النقيض، ليس سوى قيد أنيق؛ إنه النقطة التي تُفرض في نهاية النص، أو الحدث، أو الرغبة، كأن اكتمال الشيء هو إعلان وفاته. لذلك أنحاز إلى الأسئلة كتركيبات هجومية، كفؤوس تحطّم الأقفاص وتعيد تدوير الفوضى إلى إمكان. أما الإجابات، فأشفق عليها؛ إنها أشبه بجثث فرعونية محنطة في نواويسها.

رحاب هاني :لو خُيّرت بين أن ينسى ما كتبته، أو أن ينسى من كتبه… ماذا تختار؟

عبد الحليم حمود: حسب الشائع، تعيش النصوص أطول من كتّابها، وتتسلل شخصيات الروايات إلى المخيال العام حتى تغدو أكثر حضورًا من خالقيها، كما صار دون كيشوت أكثر خلودًا من سرفانتس نفسه. لكنني، من جهتي، لا أجد معنى لأن يتذكرني أحد كشخص منفصل عن نصي أو لوحتي. إن فكرة البقاء بوصفها أثرًا شخصيًا تبدو لي وهماً متعاليًا، فيما استمرارية الفكرة، بما تحمله من قدرة على الجدل وإعادة التأويل، هي وحدها البقاء الممكن. إنه انحياز غريزي، أقرب إلى جينٍ متوارث، نحو ما يمكن أن يُناقش ويُعاد إنتاجه، لا ما يُثبَّت كأيقونة صلاة تُقدَّس دون مساءلة.

رحاب هاني :هل تستطيع أن تصف لي هيئة الكلمة قبل أن تولد ؟

عبد الحليم حمود: قبل الكلمة، قبل الصوت، قبل الإيماء، هناك في الدماغ مخازن لا تُرى، مستودعات للأحداث والأفكار والومضات الإبداعية، أشبه بنجوم تائهة في عتمة كونية بلا خرائط. وحين نستجمع أفكارنا لنكتب، لا نفعل أكثر من استدعاء تلك النجوم البعيدة، نربطها بخطوط غير مرئية، لنحوّل فوضاها إلى شكل فيزيائي يمكن للورق أن يحتمله. الكتابة ليست إنتاجًا من لا شيء، بل إعادة ترتيب لمجرة داخلية ظلت طويلاً تصمت فينا.

رحاب هاني: إلى أي مدى ترى أن اختزال الثقافة في مصطلحات جاهزة ومتداولة قد ساهم في تفريغها من بعدها الجوهري؟

عبد الحليم حمود: الثقافة ليست تلك الفسيفساء الجميلة التي يزين بها كل مجتمع جدرانه الرمزية، إنها مادة لزجة، كتلة صلصالية تتحرك بين أيدينا ونحن نُقسم أنها ثابتة. هي نسبيّة، متحوّلة، تصير شيئًا في بيروت وشيئًا آخر في طوكيو، وتمارس لعبتها بين زمن يتداعى وزمن لم يولد بعد. ومن هنا، أعيد الثقافة إلى جذرها البدائي: فعل “الثَّقْف”، لا كزينة معرفية، بل كتشذيب قاسٍ، كقطع الغصن وتشكيله ليُناسب الحديقة التي نريدها. الثقافة، إذن، ليست ما نحتفي به في المهرجانات، بل ما يقطع، ويجرّح، ويعيد تشكيلنا كي نلائم قوالب السلطة التي لا نكفّ عن ادعاء مقاومتها.

في ختام هذا الحوار، يتقدّم نادي الكتاب اللبناني بجزيل الشكر والامتنان للكاتب عبد الحليم حمّوّد، على وقته الكريم، وتجاوبه الصادق، ومشاركته الغنيّة التي أضاءت لنا جوانب متعددة من تجربته الفكرية والإبداعية.

“اسمع، اقرأ، تكلّم”… عبارة نتقاطع معه فيها، ونؤمن أنها تلخّص جوهر الفعل الثقافي الحقيقي، حيث تبدو الثقافة، في كثير من الأحيان، كسرًا واعيًا للثلاثية الشهيرة: “لا تنظر، لا تسمع، لا تتكلّم”

By Roger Saad

ناشط بيئي

اترك ردإلغاء الرد

اكتشاف المزيد من نادي الكتاب اللبناني

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version