- حوار مع الأستاذة نقية هاني - ديسمبر 26, 2025
- انوار الثقافة - ديسمبر 26, 2025
- احبك - ديسمبر 26, 2025
في إطار سعي نادي الكتاب اللبناني لتعزيز الحوارات الثقافية والفكرية مع رموز الإبداع في لبنان والعالم العربي، أُجري هذا اللقاء الخاص مع الدكتور حسن عواضة، صاحب التجربة الغنية التي تتقاطع فيها هندسة الكلمة مع هندسة الإسمنت.
أجرت الحوار الأستاذة رحاب هاني خطار، عضو نادي الكتاب اللبناني، حيث حملت الأسئلة بصوت القارئ والكاتب معًا، محاولةً الكشف عن مسارات الفكر والذاكرة والاغتراب في رحلة ضيفنا المتميزة.
رحاب هاني: دكتور حسن عواضة، ما الذي ألهمك لاختيار دراسة الهندسة في الاتحاد السوڤياتي، وكيف تصف لنا تجربتك هناك؟
د.حسن عواضة: كانت دراستي للهندسة محض صدفة. لطالما حلمتُ بدراسة الهندسة الإلكترونية، وكنت مأخوذًا بسحرها الغريب، لكن الأقدار رتبت لي مسارًا مختلفًا؛ إذْ حصلتُ على منحة دراسية إلى الاتحاد السوفيتي عبر أحد الأقارب، من دون أي التزام حزبي.
رحلتي إلى هناك حملتني بعيدًا جسديًا، لكن شوق الكتابة لم يفارقني يومًا. أخذت معي كل تفاصيل الضيعة الصغيرة التي نشأتُ فيها، بكل ما فيها من بساطة ودفء، وكان أثر الحياة القروية حاضرًا في أعماقي. بدأتُ أكتب منذ أن كنت في الرابعة عشرة من عمري، وما خططته على دفتر مدرسي بقي رفيقًا لي أكثر من عشرين عامًا، حافظت عليه حتى خلال سنوات دراستي للهندسة؛ لأن ذاكرة الطفل لا تمحو شيئًا.
العلاقة بين الهندسة والأدب تفتحت مع سفري؛ لأنِّي لم أكنْ حينها شغوفًا بالهندسة بقدر ما كنت مولعًا بالرياضيات. نلتُ الدكتوراه في براءة اختراع، ثم ثانية في المجال نفسه، لكن حلمي الأول،
• أنْ أدرس الهندسة الإلكترونية،
بقي أمنيةً مؤجلة طواها الزمن.
⸻
رحاب هاني: تخرجت بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف. كيف أسهمت هذه التجربة في صقل شخصيتك المهنية والإنسانية؟
د. حسن عواضة: لا عجب إنْ كان الجواب سلبيًا، فالامتياز الذي حققته صار مرارةً لي. أتيت لأخدم بلدي، لكنني وجدت الرفض في كل مكان، وكأنَّما لا حاجة له بمثلي، وهذا أمر مؤسف.
انتقلت إلى الخليج، فكانوا يقولون لي: نحن بحاجة إلى مهندس فحسب، فما نصنع بكل هذه الشهادات؟
لكنني كنت أرى الأمر من زاوية مختلفة؛ أراه مِنْ زاوية الوعي والصبر؛ فالفكر ثروة لا يُستغنى عنها، وهو عزّ لا عزّ بعده. حين رأيت كيف تتحوّل عصارة الفكر الإنساني إلى قواعد وتجارب تنطلق منها الأفكار لتصبح حقيقة ملموسة، أدركت روعة هذا المسار، روعة أن يتحوّل الحلم إلى واقع.
عام 1988، كنت في وطني ” أو لا أدري إن كان يحق لي أن أسميه وطني -،
لأنَّ الغربة داخله كانت أشد من الغربة خارجه. كتبت عني الصحف والإذاعات اللبنانية، لكن الحقيقة أنَّ أحدًا لم يمدّ لي يدًا أو يفتح لي بابًا. وللأسف، أقولها صراحة: لم يكن وطني بحاجة إلى العلم، وهذه مأساة في حد ذاتها.
⸻
رحاب هاني: في كتابك وروايتك “البصير”، وثّقت حياة الناس في الجنوب وجبل عامل، ما الهدف الذي سعيت إليه من جمع هذه الحكايات؟ وأنت كاتب لديك عدة مؤلفات، فكيف تضع “البصير” ضمن مسيرتك الأدبية؟
د. حسن عواضة: كما الأم لا تميّز بين أطفالها، وكذلك الكاتب لا يميّز بين مؤلفاته. كل نص يولد من رحم أفكار الكاتب يحمل حنينه ووجعه وفرحه. أول رواية كتبتها كنت في الرابعة عشرة من عمري، واستندت إلى أحداث تركت أثرها في داخلي و في داخل كل إنسان جنوبي، لأنها تناولت معاناة أهل الجنوب الذين قدّر لهم أنْ يكونوا أهل الألم والصبر بكل أسف.
أما كتاب البصير فجاء على خلفية مختلفة، يقوم على ركيزتين أساسيتين: الأولى إحساسي العميق بأنَّ ذاكرة منطقة جبل عامل، بكل تفاصيلها وأطيافها، تتآكل رويدًا رويدًا. شعرت أنَّ من واجبي أنْ أقاوم هذا الاندثار، وأنْ أكتب ما يمكن أنْ يُعتبر لاحقًا مرجعًا للعادات والتقاليد: طقوس الموت، مظاهر السحر والشعوذة، صورة الشيخ والخوري، الألعاب الطفولية، وحتى العادات المرتبطة بالعراضات وبحياة الناس الخاصة.
أتذكر مثلاً الدبكة التي كانت تُقام أمام البيوت أو في الساحات العامة، وكانوا يسمونها آنذاك “الفرخة والديك”: الفتاة إلى جانب الشاب يضعان منديلًا يفصل بين كفَّيْهما؛ كيلا تتلامس أصابعهما، إنَّ لفي ذلك لقاءٌ بريء يختزن المحبة. أسأل نفسي اليوم: هل يمكن أنْ نجد في مجتمعاتنا الحالية “فرخةً وديكًا” يتقاسمان تلك البراءة؟ هل تقدّمنا فعلًا؟
كلا، لقد عدنا إلى الوراء.
هذه هي حياتنا، مجتمعنا الذي عاشت فيه “أم إلياس” و”أم حسين” بين قوت يومي شاق، وفرح بسيط، وحزن عابر. كنا نتقدّم يومًا بعد يوم، أمَّا اليوم فقد خسرنا الكثير من تلك الأصالة. لذلك كتبت بلا تحفظ، وكأنني أوثّق شهادة حيّة، لأحافظ على هذه العادات والتقاليد من الضياع، ولتبقى مكتوبة وموثقة للأجيال المقبلة.
⸻
رحاب هاني: تقول إنَّ الفقر هو محرك الإبداع والتغيير. لا بل، وذهبتَ أبعد مِنْ ذلك، حين حلمتَ بجامعة تعلّم طلابها الفقر مدخلًا إلى الإبداع. ما هي فلسفة هذه الفكرة وكيف تراها قابلة للتحقيق؟
د حسن عواضة: هذا الحلم لم يأتِ من فراغ، بل كان ثمرة معاناتي الشخصية. فقد نشأت في الفقر، وأمي كانت أمّية، لكن كل ذلك لم يثنني، بل صار دافعًا قويًا لأحلم، لأتجاوز ما أنا فيه. كان الفقر سببًا للألم، لكنه أيضًا كان الشرارة التي أيقظت في داخلي الرغبة في التغلُّبَ عليه.
ومع ذلك، ليس كل فقير يصل إلى ما يحلم به، رغم أنَّ الدافع مشترك. من هنا وُلد حلمي في بناء جامعة لتعليم مادة الفقر
ومع ذلك، ليس كل فقير يصل إلى ما يحلم به، رغم أنَّ الدافع مشترك. من هنا وُلد حلمي في بناء جامعة لتعليم الفقر، لأنِّي كنت أؤمن أنّ الفقر هو الدافع الذي يُحوّل الحرمان إلى فرصة، وهو الذي يزرع في الشباب الحلم بدل أن يبقوا أسرى للفقر والعوز. هناك قول: “الحاجة أم الاختراع”. فلو لم تكن هناك حاجة، لما وُجد اختراع. ومن تجربتي الخاصة، كنت أراقب أطفالي عندما كانوا يذهبون إلى المدرسة في إحدى دول الخليج، تحت حرارة الطقس القاسية. بعض الطلاب كان عليهم أن يقطعوا مسافة طويلة مشيًا تحت الشمس الحارقة، بينما آخرون كان السائق يوصلهم إلى باب المدرسة مباشرة، وينتظرهم في سيَّارة مُبَرَّدة دون إطفاء محرِّكها حتى انتهاء الدوام المدرسي. المفاجأة أنَّ نتائج الطلاب الذين كانوا يواجهون “الشوب” تفوّقوا بكثير على أولئك الذين لم يتعرضوا لأي مشقة.
هذا جعلني أوقن أنَّ الفكر يتقد حين يُضطر الإنسان إلى الحركة والمواجهة والبحث عن الحلول. دائمًا ما أقول: هناك سبب وهناك دافع، وعلى أساسهما يبني الإنسان مرتكزاته في الحياة.
⸻
رحاب هاني: بين “هندسة الكلمة” و”هندسة الإسمنت”، أين تلتقي التجربتان في حياتك؟ وكيف يتكامل الأدب مع الهندسة في صياغة مشروعك الفكري؟
د. حسن عواضة: الإنسان؛ الكون؛ الحياة؛ وكل ما هو قائم على وجه الأرض، ليس إلَّا ثمرة هندسة دقيقة. لا يولد شيء بلا نظام منمّق. حتى الكلمة في ذاتها تخضع لهندسة خاصة. فالهندسة ليست مجرد علم الأشكال، بل هي علم الحياة، علم الكون، هي المنطق الذي تقوم عليه الأفكار العلمية كما الأدبية.
حين أكتب جملة من أربع كلمات، قد أقضي أكثر من عشر دقائق أفتّش عن مكان كل كلمة: أيها تليق بالبداية وأيها تستحق أنْ تكون في الختام. هذا الترتيب ليس اعتباطيًا، بل هو هندسة داخلية للكلمة والمعنى. الشعر أيضًا ــ وأعني هنا الشعر المقفّى ــ هو بناء هندسي متكامل: بداية، نهاية، إيقاع وصياغة؛ لذلك لا يمكن أنْ نتحدث عن كتاب أو أدب دون أنْ نعترف بوجود هندسة فكرية وأدبية تشكّل أساسه.
⸻
رحاب هاني: إلى أي مدى أثرت البيئة الجنوبية وجبل عامل في تكوين شخصياتك وأفكارك وقيمك؟
د. حسن عواضة: الأثر الذي تركه الجنوب في داخلي كبير جدًّا. ما زلت أذكر بيتي هناك، وكيف كنت أنظر إلى كبار السن ببراءتهم وسلامهم الداخلي. لم يكونوا ينادون الأشخاص بأسمائهم، بل يقولون: “يا جدي”، “يا قبَّاري”، كأن الروحانية كانت تتجسّد في تلك الألفة البسيطة.
ثم جاءت تجربتي في الدراسة بالخارج، حيث عشت مع ثقافات أخرى، فكوّنت في داخلي مزيجًا من التقاليد والحكمة والرؤية الأوسع. هذا المزيج جعلني أنظر إلى الأمور بعمق مختلف: إنْ نحن تخلّينا عمّا ورثناه من أجدادنا، فما الذي سيبقى لنا؟
اليوم، أؤمن أنَّ الحفاظ على الأرض والهوية هو الأساس في كل شيء. إنَّهما الجذور التي تمنحنا الثبات في وجه كل التحوّلات.
⸻
رحاب هاني: واجهتَ في مسيرتك الكثير من التحديات، فما أصعبها؟ وكيف استطعت تجاوزها؟ ومن هو مثلك الأعلى الذي ألهمك في تلك المسيرة؟
د. حسن عواضة: الصعوبات التي واجهتها لا تُحصى ولا تُعد. وبكل ألمٍ أقول: إنَّني أعيش في بلد لا أستطيع أنْ أسميه وطنًا. ما زلت أشعر، حتى اليوم، أنّ عدم تقدير الآخر، وعدم الاعتراف بما يحمله الإنسان من فائدة لبلده، هو من أكبر المآسي التي عانيتها.
أذكر أنني سمعت مرة قصة حصلت مع رجلٍ جنوبي هاجر إلى إفريقيا: سألته كيف جمع كل تلك الثروة، فقال: كان العبيد يبحثون عن الألماس في أرضهم، وحين يجدونه يعطونني إياه؛ مُقابل إطعامهم. وهكذا أخذ الألماس لنفسي. تلك الصورة الموجعة شعرت أنها تعكس حالنا نحن أيضًا؛ نحن من نملك الألماس، لكننا نقدّمه لغيرنا.
⸻
رحاب هاني: المعروف أنَّ اللبناني يتميز بعناده وإصراره، كما يتصف أيضًا بصدقه وإبداعه ومرونته. كيف تنعكس هذه الصفات على تجربة الاغتراب والعودة إلى الوطن؟ وما هي نصيحتك لشباب اليوم في مواجهة صعوبات الحياة والإبداع؟
د. حسن عواضة: نحن أحفاد الفينيقيين الذين أبدعوا في تجارتهم وأبحروا حتى وصلوا إلى أقاصي الدنيا. نحن أبناء لغة المنطق العربية، نحمل في دمنا حبّ المغامرة لأجل الحياة. نحن كلبنانيين، عباقرة الزمان. لكن القمع في الداخل يقتل الفكر. نحنُ في الخارج نبدع بعقولنا وأفكارنا ونبني ثروة ونحقِّق نجاحًا. وحين نعود إلى الوطن، نكتشف أنْ لا شيء من ذلك الفكر يبقى، إذْ هناك دائمًا مَنْ ينهش أحلامنا وآمالنا بلا نهاية.
رسالتي إلى شباب وطني: اصبروا، وأبدعوا رغم كل الظروف. تمسّكوا بهويتكم، فالهويّة هي ما تبقَّى لنا، ويبقى معها الوطن، مهما عصفت به الأزمات.
⸻
رحاب هاني: كيف تصف لنا تجربتك مع الكتاب، وما هو رأيك بدور نادي الكتاب اللبناني اليوم على الساحة الثقافية؟
د. حسن عواضة: مهما بلغ الإنسان من عبقرية، لا بد أنْ تُسقى عبقريته بغذاء جسدي وفكري. من دون القراءة، لا يمكن للعقل أنْ يزدهر.
في صغري كان الكتاب صديقي الأقرب. بيتنا في الضيعة كان يطل على سهل واسع تظلله أشجار البطم العالية. هناك كنت أقرأ لطه حسين، لجبران، ولغيرهم. أحيانًا، مع بعض الأصدقاء، كنا نتبادل الكتب لأنّ شراءها لم يكن ممكنًا دائمًا.
أتذكر أن والدتي كانت تأمرني بالخروج من الغرفة خوفًا على الكنبة التي كنت أطيل الجلوس عليها للقراءة. لكنَّني لم أتوقف؛ كنت أجد مكانًا آخر: تحت أشجار الزيتون والبطم بجوار بيتنا، حيث أقرأ وأكتب متأثرًا بجبران، ثمّ لاحقًا بكبار الأدباء الروس.
أذكرُ حين أنجزت أطروحتي الأولى للدكتوراه باللغة الروسية، سألني المشرف بدهشة: من كتبها لك؟ فضحكت، وأجبته مُعتزًا: أنا كتبتها. كانت دهشته أكبر دليل على أنني أتقنت اللغة وأتقنت التعبير بها.
أصدقائي كانوا قلائل (خاصة بين الطلبة العرب)، لكن صداقتي الأعمق كانت دائمًا مع الكلمة والكتاب.
وأمَّا عن علاقتي مع نادي الكتاب اللبناني، فأنا أتمنى لهذا النادي أنْ ينهض أكثر وينتشر أكثر؛ لأنَّه يلبي طموح الكثيرين ممن يشاركونه الحب للكلمة والأدب. لقد لاحظت أنَّ أعضاؤه متعاونون جدًا مع بعضهم بعضًا، وهذا التعاون ينعش روح الإنسان من الداخل. وأنا شخصيًا متحمس جدًا لأنْ أكون عضوًا في هذا النادي، لأشارك وأتعلم وأساهم في مسيرته الثقافية
