- حوار مع الأستاذة نقية هاني - ديسمبر 26, 2025
- انوار الثقافة - ديسمبر 26, 2025
- احبك - ديسمبر 26, 2025
باسم نادي الكتاب اللبناني، أجرت الأستاذة رحاب هاني خطّار هذا الحوار مع الأستاذ غازي صعب، مدير المكتبة الوطنية في بعقلين. هناك، حيث تحوّل المكان من سجن قديم إلى فضاء للمعرفة، تتجلّى حكاية مكتبة تحتضن الذاكرة الثقافية للبنان. في هذا اللقاء، يكشف الأستاذ صعب عن شغفه بالكتاب، وعن قيمة الأرشيف، وعن مسؤولية الأمانة التي تسبق صفة الإدارة. حوار يضيء على دور المكتبة في صون الحقيقة وإبقاء الثقافة حيّة عبر الأجيال.
: رحاب هاني ما الذي جعلك ان تختار ان تكرس حياتك للكتاب وللمكتبة ومتى قررت ان يبقى مستقبلك مرتبطا بالكلمة؟
غازي صعب: خمسةَ عشر عامًا قضيتُ طفولتي و شبابي في الكويت مع أهلي،ولم تكن مجرّد سنوات عابرة، بل تركت في حياتي بصمة لا تُمحى. هناك انفتحت أمامي أبواب اللجان الثقافية والتربوية والرياضية، فانغمست في أنشطتها، وأخذت القراءة تتشكّل شيئًا فشيئًا كعادة يومية راسخة، أشبه بطقسٍ لا يكتمل يومي من دونه.وحين عدتُ إلى لبنان، وانضممت إلى وزارة التربية، واصلت السير على الدرب ذاته، فبقي الكتاب رفيقي الأول. ثم في عام 1999، ومع بداية عملي في المكتبة الوطنية – بعقلين، توطّد هذا العشق أكثر، حتى غدت القراءة بالنسبة إليّ تنفّسًا لا يمكن الاستغناء عنه.وأفصح لك بسرّ صغير: على رفوفي ثلاثون دفترًا، محشوّة بالمذكرات والاقتباسات التي التقطتها من بين السطور. إنها ليست أوراقًا وحبرًا فحسب، بل ذاكرة متوهجة، وربما تنقلب يومًا إلى مجلد يروي – بصمته البليغ – حكاية شغفي بالكتاب.
رحاب هاني: هذا المكان كان يومًا سجنًا وأصبح اليوم مكتبة. كيف عايشت هذا التحوّل؟ وهل تشعر أنّ الجدران تحتفظ بذاكرة تهمس لك بشيء؟
غازي صعب: كل جدار من جدران المكتبة الوطنية- بعقلين و كل زاوية فيها، بل حتى الأرفف والزوايا الخفيّة، تعني لي الكثير. وقبل أي كلام، لا بدّ من توجيه الشكر إلى مَن أسّس هذه المكتبة، الأستاذ وليد بك جنبلاط، وإلى الأستاذ أسعد ملاك الذي سبقني في العمل فيها. لقد تأسست المكتبة في الثالث عشر من آذار عام 1987، وتولّيتُ مهامي فيها منذ عام 1999.منذ ذلك الحين، وكل ركن في هذه المكتبة يشهد على عمق ارتباطي بها. أستقبل بنفسي الكتب التي تُهدى إلينا، وأشرف على وضعها في مكانها المناسب، لأحتفظ بذاكرة حيّة تذكّرني دائمًا بصاحب الهدية وبقيمة العطاء. وهكذا تعلّمت أن أتفحّص الكتاب بدقّة، وأكسر عنه قيد الجماد لأبحث من خلاله عن الحقيقة.وأتأكّد دائمًا من كل تفصيل: هل هذا الكتاب ملائم لوجوده بين رفوف المكتبة؟ هل يخلو من توجيه مضلّل أو أفكار مشوَّهة أو إساءة لمعتقدات؟ فالمكتبة بالنسبة إليّ ليست مجرّد مكان، بل فضاء مقدّس لا يليق به إلا ما يعكس قيمتها التاريخية وعبقها الثقافي.
رحاب هاني: مع هذا التطور التكنولوجي الكبير، هل ترى أن الشاشة انتزعت شيئًا من روح الورق؟ وهل يراودك القلق من أن يأتي يوم تصبح فيه المكتبات مجرد أوراق عتيقة تصفرّ مع مرور الزمن؟
غازي صعب: أنا مؤمن، وإيماني راسخ بأن دور الكتاب جوهري وأساسي. في المكتبة الوطنية – بعقلين نعتمد مشروع الإعارة المفتوح أمام كل مقيم في لبنان. ومن خلال هذا المشروع تتّضح المؤشّرات: ففي العام الماضي سجّلنا 22,600 عملية إعارة، بينما بلغ العدد في العام الذي سبقه نحو 25,000. واللافت أنّ 65% من المستعيرين هم من فئة الشباب والأطفال، وهذا بحدّ ذاته مؤشر في غاية الأهمية، إذ يعكس حركة حيّة ودافعة داخل أكبر مكتبة عامة في لبنان.المكتبة الوطنية – بعقلين هي بالفعل أكبر مكتبة عامة في البلد، ومن هنا يزداد تعلّقي بالكتاب الذي لا يمكن أن أتخلّى عنه. أنا شخصيًا لا أقرأ عبر الكمبيوتر أو الهاتف، بل أصرّ على أن تبقى علاقتي مباشرة مع الكتاب الورقي.أما على صعيد المستعيرين، فألاحظ أنّ خياراتهم غالبًا ما تكون جادّة وذات قيمة، كما نتيح لطلاب الدراسات العليا مجال استعارة عدد أكبر من الكتب دعمًا لأبحاثهم. صحيح أنّ هناك بعض الخلل البسيط في نظام الإعارة، لكنّ إدارة المكتبة وموظفيها يتابعون الأمر بدقّة حرصًا على إعادة الكتب وعدم فقدانها.نحن مستمرون في هذا البرنامج، ونسعى دومًا إلى رفع عدد المشاركين والمستعيرين، لأنّه مؤشر واعد، ويمنحنا أملًا كبيرًا بأن تبقى الثقافة والقراءة في صدارة أولويات هذا الجيل الشاب.
رحاب هاني: بعد كل هذه السنوات هنا، ما الأمر الذي اكتشفته عن نفسك ولم تكن تعرفه؟
غازي صعب: سؤال جميل… ما علّمتني إيّاه التجربة هو أوّلًا أن أحبّ خدمة الناس بلا مساومة أو تردّد. أن أتابع أدقّ التفاصيل في المكتبة، صغيرها وكبيرها، وكأنّها شأن شخصي يخصّني. كما منحتني يقينًا راسخًا بجوهر الإنسان، ذاك الجوهر الذي يعلو على المذاهب والمعتقدات التي تفرّق أكثر ممّا توحّد. وهذا ما اكتسبته من التجربة، وما أعتبره أثمن ما خرجت به منها.
رحاب هاني: حين تتنقل بين الرفوف، أتفعل ذلك بعين القارئ الذي يبحث عن متعته، أم بعين الحارس الذي يشعر أنه مؤتمن عن هذه الذاكرة البشرية؟
غازي صعب: الاثنتين سوا.حين يأتي أي شخص ليستعير كتابًا أو يتصفّحه داخل المكتبة، أطلب منه أن يضعه على الطاولة بعد الانتهاء، لأننا نحن من نتولّى إعادته إلى مكانه الصحيح على الرفوف. فالكتب هنا مرتّبة وفق نظام “ديوي العشري”، وهو تقسيم عالمي يعتمد على عشرة أقسام رئيسية تتفرّع عنها موضوعات فرعية، وهو الأساس الذي تُنظَّم على ضوئه المكتبات.بهذا الترتيب أستطيع أن أحفظ أماكن الكتب عن ظهر قلب، وأكتشف الخطأ بنظرة واحدة. وأشعر دائمًا بثقة نابعة من الأمانة؛ فأنا مطمئن إلى أنّ أحدًا لن يخلط أو يعبث بالنظام. عملي هنا تطوعي ومجاني، وأؤمن أنّ ما بين يديّ أمانة، وأريد أن أسلّمها يومًا مكتملة، مصونة، غير منقوصة.
رحاب هاني: الكلمة الحرّة النابعة من الفكر تختلف عن الكلمة النابعة من تمتمة الشفاه. فأيّ منها تليق بمنطق اليوم؟غازي صعب: ليس كل الناس سواء. هناك من يختار كلماته بصدق، وهذه في رأيي أدقّ وسيلة للوصول إلى الآخرين: الصدق والحقيقة. هذا هو المعيار الحقيقي للكلام، وهو مختلف تمامًا عن الثرثرة الفارغة.أنا من الذين يؤمنون، على سبيل المثال، أنّ الذكاء الاصطناعي سيصل في النهاية إلى تدمير نفسه وربما تدمير البشرية معه، لأنه لا يمكن أن يكون دقيقًا إلى الحدّ الذي يُروَّج له. وقد علمتُ أنّ اللجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو ستنظم قريبًا ورشة عمل حول الذكاء الاصطناعي. والسؤال الذي أطرحه هو: إلى أين سنصل؟فالتاريخ يبيّن لنا أنّ كل تطوّر تقني، منذ العصر الحجري وصولًا إلى ما نحن فيه اليوم، لم يخلُ من مفارقات قاسية؛ فبعد الحروب، كم مرة عدنا كأننا إلى العصر الحجري من جديد؟ لذلك، إن لم يكن للكلام أثر أصيل ومصدر واعٍ، فلن تكون فيه فائدة تُذكر، لأن الناس حينها لا تفعل سوى النقل بلا تفكير.
رحاب هاني: الأرشفة في جوهرها حفظ للذاكرة. ما الذي تخشاه أكثر: أن يضيع شيء فيُنسى، أم أن يبقى موجودًا لكن يُزوَّر؟
غازي صعب: الأرشيف ضروري جدًا إلى جانب الكتب والأبحاث. ففي مكتبتنا، مثلًا، يوجد أرشيف لمحاضر مجلس النواب، والجريدة الرسمية، وأرشيف جريدة النهار وجرائد أخرى مثل السفير وغيرها. كلّها موثّقة ومصنّفة في الأرشيف.هناك أيضًا قاعة الكتب القديمة جدًا في المكتبة، تحتوي على نوادر ثمينة، منها أقدم كتاب كُتب بالفرنسية عن الشرق الأوسط وصدر عام 1725. هذا الكتاب لا نسمح لأحد بلمسه مباشرة، ومن يرغب بالاطلاع عليه نتيح له نسخة مصوّرة. نحن نتّبع القواعد المعمول بها عالميًا في كبريات المكتبات، وفق القانون الدولي، الذي لا يجيز تصوير أكثر من 20% من أي كتاب، حمايةً من التزوير وصونًا للحقوق.تكمن أهمية الأرشيف في تثبيت الحقائق. فإذا وُجد كتاب لا يعتمد في معلوماته على أرشفة دقيقة أو مصادر موثوقة، لا يُؤرشف. من هنا، أعتبر نفسي “أمين مكتبة” قبل أن أكون “مدير مكتبة”، فالأمانة في حفظ المعلومات والحقائق هي جوهر هذا الدور.
رحاب هاني: هل تعتقد أن هناك كتبًا خُلقت لتُقرأ بصوت عالٍ، وأخرى يليق بها الصمت؟
غازي صعب: نعم… كثير من الكتب الصادرة اليوم تُقرأ بدافع شخصي أو بدافع لحظة عابرة، لكنها قد تحمل في طيّاتها تزويرًا أو سطحية أو افتقارًا إلى المنطق، فلا تقترب من الروح ولا من العقل. تلك هي لغة الصمت: كلمات بلا صدى حقيقي.أمّا الكتب الفلسفية، وكتب التصوّف والتاريخ والأدب والشعر، فقد وُجدت لتُقرأ بصوت عالٍ، بصوت المفكّر. هذه الأعمال تحمل فكرًا حيًّا، لا تُقرأ على عجل، بل وُجدت لتُتلى وتُستمع، كأنها نداء من عقل إلى عقل، ومن روح إلى روح.
رحاب هاني: برأيك، أيّ القارئين أكثر وفاءً: من لا يعيد قراءة الكتاب أبدًا، أم من يعود إليه مرات وكأنه يقرأه للمرة الأولى؟
غازي صعب: أتحدث عن نفسي هنا: هناك كتب لا أكتفي بقراءتها مرة واحدة، بل أعود إليها مرارًا. على سبيل المثال، طُلب مني مؤخرًا كتاب عن موضوع التقمّص، فذكّرني ذلك بكتاب سبق أن قرأته للدكتور لطيف لطيف، فأعدت قراءته. كذلك الأمر مع كتب كمال جنبلاط وميخائيل نعيمة، فهي من الكتب التي لا تكفيها قراءة واحدة، بل يجب أن تُعاد مرارًا، لأنها تمنح في كل مرة معنى جديدًا وتجربة مختلفة.
رحاب هاني: وأخيرًا، لو أردت أن توجّه كلمة لنادي الكتاب اللبناني الذي كسر بوعيٍ الثلاثية “لا تقرأ، لا تسمع، لا تتكلم” وجعلها “اقرأ، اسمع، تكلم”… ماذا تقول لهم؟
غازي صعب: نحن بحاجة فعلًا إلى نادي الكتاب اللبناني. بشكل عام هو يمتلك حركية ونشاطًا مميزين، وخصوصًا فرع الدكتورة نازك ابو علوان عابد حيث ظهرت حركية ثقافية لافتة. أرجو ألّا تُؤخذ أي دعوة على محمل الشخصنة، بل أن يُتاح المجال أمام كل من يرغب في التعامل معكم بجدية وإبداع. المطلوب هو البحث عمّن يستحق أن يُحتضن ويُدعم، فهناك كتب مميزة فعلًا تستحق أن ترى النور وتحظى بالاهتمام.
