Latest posts by Roger Saad (see all)

من بين الألوان والعجائن اليابانية وعبق الأزهار اللبنانية، برزت الفنانة حنان بارودي رائدة فنّ الباندو وإعادة التدوير الفني، لتجعل من النفايات جمالًا ومن الفن رسالة بيئية راقية.
في هذا الحوار الذي اجرته معها الاستاذه رحاب هاني خطار ، تروي لنا محطّاتها بين لبنان والعالم، وكيف حوّلت الإبداع إلى أسلوب حياة.

رحاب هاني: من أين بدأت الحكاية، وكيف التقت طفولتك بعالم الأزهار والفن؟

حنان بارودي: بدأت الحكاية منذ أن كنت طفلة عاشت بين الجدّات، حين كنّ يجتمعن في الصيف في منزل الجبل، وكان يصنعن فنونًا مختلفة. كانت جدّتي فنانة عصرها، تصنع اللوحات من شرانق الحرير والطحالب التي تعيش على الصخور، ومن أزهار القماش التي تتزين بها العروس.كانت تلك اللوحات تخرج مع كل عروس إلى دار زوجها، وتتوسطها عادةً صورة العائلة، وما زلت أحتفظ بواحدة منها.كنت أراقبهنّ وأسرق البقايا من بين أيديهنّ لأذهب إلى غرفتي وأصنع الأزهار وأنسّقها في لوحات على طريقتي.

رحاب هاني: متى شعرتِ أن الرسم أصبح جزءًا منك لا ينفصل عنك؟

حنان بارودي: حين كبرت، بين السابعة والعاشرة من عمري، في المدرسة كان يهمّني فقط درس الرسم والأشغال. تعلّقت جدًا بمعلمة الفنون، وكانت فنانة مبدعة.كانت تخرج من الصف، لكنني لم أتوقف عن تقليدها طول النهار في المدرسة، وحين أعود إلى البيت.انهالت الشكاوى عليّ من المعلمات، فاستدعت المديرة والدي لاجتماع مهم.وبما أنه مدير في مدرسة الصبيان، حضر وهو يعرفها، فاقترح أن أرافق معلمة الفنون في جميع الحصص، على أن يتولّى هو متابعة دروسي في المنزل.وهكذا أصبحت المرافقة والمساعدة لمعلمة الفنون رحمها الله حتى الشهادة الأولى. بقيت إلى جانبي حتى وفاتها، وكانت زوجة نقيب الصحافة في طرابلس.بعدها، أحضر لي والدي مدرّسًا للرسم لإعطائي دروسًا خاصة، رغم انتقادات العائلة والمدرسة. لكن رده كان دائمًا:“هل يجب أن يكون كل الشباب والصبايا أطباء ومهندسين؟ نريد فنانين لهذا البلد.”كان ذلك قبل أن يوجد فرع للفنون في الجامعات.وبعد فترة من الدروس، اقترح المدرّس — الذي أصبح لاحقًا عميد كلية الفنون في الجامعة اللبنانية — أن أساعده في إعطاء الدروس في إحدى المدارس الخاصة.كنت حينها في السادسة عشرة من عمري، وهناك بدأت مسيرتي التعليمية في الفن.

رحاب هاني: درستِ في مدن مختلفة حول العالم، ماذا أضافت لك هذه التجارب فنيًا وإنسانيًا؟

حنان بارودي: في السابعة عشرة من عمري، علم والدي من المركز الثقافي الفرنسي أنه ينظّم مخيمًا صيفيًا يهتم بالمهارات اليدوية والموسيقى والرياضة، فكانت تلك أول رحلة لي خارج لبنان.هناك تعلّمت فنونًا مختلفة: الرسم على الحرير، البورسلان، حياكة الحبال، وغيرها.تأثّرت بالثقافات المتنوعة واللغات المختلفة، واستمتعت جدًا في هذا المخيم، حتى أصبحت أتابع مثل هذه الأنشطة كل صيف في بلد مختلف: لندن، ميلانو، حيث أتقنت فنّ صناعة الأزهار من القماش، قبل أن يعرفه لبنان.وخلال السنة كنت أُعلّم بنات الجيران لأجمع المال من أجل المخيم الصيفي التالي.ومن خلال أزهار القماش بدأت رحلتي مع المعارض، بين الجمعيات والنوادي والمدارس.

رحاب هاني: ما الذي جذبك إلى فنّ الباندو تحديدًا، ولماذا اخترتِ إعادة ابتكار الأشياء اليومية؟

حنان بارودي: عام 1978، خلال الحرب الأهلية، تزوجت وسافرت مع زوجي إلى غانا، حيث مارست عملي الفني، وأقمت عدة معارض برعاية زوجة رئيس الجمهورية هناك.لكن عام 1979 وقع انقلاب في البلاد، واشتعلت الأوضاع، وكنت على وشك الولادة، فاقترح زوجي أن أذهب إلى أميركا عند أخي وأقاربي.هناك، وخلال إقامتي عند قريبتي زوجة سفير لبنان، تعرّفت على سفيرة اليابان التي اطّلعت على أعمالي الموجودة في السفارة، واقترحت عليّ زيارة معهد ياباني يعلّم فنّ الباندو — صناعة وتنسيق الأزهار من عجينة خاصة.أتقنت هذا الفن وأبدعت فيه، ثم سافرت إلى طوكيو لمتابعة التخصّص ونيل شهادة “مدرّسة” لهذا الفن الرائع والغريب في الشرق الأوسط حينها.

رحاب هاني: كيف تحوّلت المواد البسيطة مثل سطل اللبن والجرائد القديمة إلى لغة فنية تعبّرين بها عن ذاتك؟

حنان بارودي: بعد عودتي إلى لبنان، افتتحت محلًا لبيع منتجاتي من باقات الباندو الرائعة. ثم تطور الأمر إلى تعليم هذا الفن للراغبات من مختلف المناطق.وخلال ذهابي إلى بيروت مرتين أسبوعيًا، كان يزعجني منظر النفايات على جوانب الطرقات: الزجاجات، العلب الفارغة، الأكياس البلاستيكية.فخطرت لي فكرة معرض يجمع بين أزهار الباندو وهذه المواد المرمية، وحمل المعرض عنوان «النفايات ثروة إذا أردنا»، وأُقيم في وزارة السياحة برعاية السيدة بهية الحريري، وزيرة التربية آنذاك، التي أعجبت بالفكرة جدًا، واقترحت تعميمها على مدارس لبنان لتُدرّس ضمن أنشطة مؤسسات الحريري.بدأتُ بعدها بزيارة المدارس يوميًا على مدى شهرين، وانتشرت الفكرة بسرعة.وكان وزير الإعلام آنذاك غازي العريضي من الزائرين للمعرض، وقد أُعجب بالمعروضات واشترى كمية كبيرة منها دعمًا للفكره

رحاب هاني: شاركتِ في معارض داخل لبنان وخارجه، أيّ محطة كانت الأكثر تأثيرًا في مسارك الفني؟
حنان بارودي: أقمتُ معارض خاصة في لبنان وخارجه، بعد أن ذاع صيتي من خلال الفقرات التي كنت أقدّمها في عدد من المحطات التلفزيونية.
وبعد كل معرض، كنتُ أُقيم دورات تدريبية لمعلّمات الفنون في البلد المُستضيف، بدعوة من وزارات الشؤون الاجتماعية أو التربية.
وقد دُعيت إلى معظم الدول العربية أكثر من مرة، وفي كل مكان كانت لي ذكريات ومواقف رائعة من تكريمات ومبيعات.

أما أهمّ محطة في مسيرتي، فكانت في إهدن بعد زيارتي للرئيس سليمان فرنجية الجدّ، لأنها منطقته، وكان ذلك في أواخر الحرب الأهلية.
بارك فخامته المعرض، واستدعى القيّمين على التلفزيون وإذاعة إهدن، وطلب منهم تبنّي المعرض إعلاميًا.
وفي الأيام الأخيرة، زارني الوزير جان عبيد برفقة زوجته موفدًا من الرئيس فرنجية، وبدأ يتنقّل بين المعروضات، يختار واحدة تلو الأخرى، حتى اشترى جميع القطع المعروضة.
ثم أخرج شيكًا ووقّعه دون أن يسأل عن المبلغ، وقال لي بابتسامة: “اكتبي المبلغ المطلوب.”

ومن هذا المبلغ بدأتُ الجدّ في العمل، فافتتحتُ مركزًا أطلقت عليه اسم My Hobby، يضمّ غاليري ومركزًا للتعليم صباحًا، وفي المساء كنّا نستضيف أمسيات أدبية وشعرية، ليعيش الحضور حالة من التبادل بين الفنّ والإبداع والثقافة.

رحاب هاني: حدثينا عن تجربتك في اليابان مع العجين الذي يُصنع منه الباندو، وكيف تعاملتِ معه للحفاظ عليه من التلف؟
حنان بارودي: عندما زاد عدد الطلاب، ولم نعد نستطيع استيراد عجينة الباندو من اليابان بسبب الحرب، بدأتُ سلسلة من التجارب لصناعتها محليًا.
كانت المحاولات صعبة، إذ كان التحدّي أن أجعلها غير قابلة للتلف بمرور الوقت.
وفي أحد الأيام، أخبرتني جدّتي أنّهم في الماضي كانوا يحفظون محاصيلهم في الخوابي لسنوات، ولحمايتها من التسوّس كانوا يضيفون إليها الملح.
أخذتُ بالفكرة، وبعد تجارب عديدة نجحتُ أخيرًا في ابتكار عجينة باندو محلية مقاومة للتلف — وهكذا وُلد “الباندو اللبناني”.

رحاب هاني: مشروعك “بيئتي صنع يدي” حوّل النفايات المنزلية إلى أعمال فنية ووسائل توعوية بيئية، ما الرسالة التي أردتِ إيصالها من خلاله؟
حنان بارودي: “بيئتي صنع يدي” كان عنوان معرضي الذي لاقى نجاحًا كبيرًا، وتنقّل بين معظم المناطق اللبنانية وخارج لبنان، حيث بيعت جميع المنتجات في الكويت الحبيبة.
من خلاله أردت أن أوصل فكرة بسيطة ومُلهمة:
حتى من النفايات، يمكننا أن نخلق الجمال والنجاح إن توفّر الإصرار والإيمان.
وقد لاقى المشروع صدى واسعًا في الجامعات اللبنانية، بعدما شاهده الوزير سامي منقارة في قصر الأونيسكو برعاية الوزير طارق متري، فأدرجه مادة تعليمية في جامعة طرابلس، وتبنّته لاحقًا جامعات أخرى.

رحاب هاني: ما الذي يميّز تجربتك التعليمية، وكيف تزرعين حبّ الجمال والإبداع في طلابك؟
حنان بارودي: حين يكون عملك نابعًا من شغفك، تصلين إلى الطالب دون جهد.
كنت دائمًا أُدرّس في مشغلي أو خارجه، لأُريهم أن الفنّ ليس مجرد حصة، بل أسلوب حياة يمكن أن يتحوّل إلى ديكور متكامل بكلفة بسيطة جدًا.
وحين يدخل الطلاب إلى مشغلي أو منزلي، يشعرون بالدهشة، كأنهم في عالم مختلف، فيفهمون أنّ الجمال لا يحتاج إلى إمكانيات كبيرة، بل إلى عين مُحِبّة ويد صبورة.

رحاب هاني: وثّقتِ أعمالك في كتب ومراجع فنية، كيف كانت هذه التجربة، وما مشروعك الحالي في هذا المجال؟
حنان بارودي: كانت تجربة رائعة أن أُوثّق أعمالي مع شرحها التفصيلي في كتب ليستفيد منها الجيل الجديد.
لكن مع انتشار وسائل التواصل واليوتيوب، خفّ حماسي للكتابة الورقية.
مشروعي الحالي هو تحويل أرشيفي الكبير جدًا — الذي يضمّ حلقات تعليمية تلفزيونية ومقابلات إذاعية قديمة — إلى صيغة رقمية حديثة تواكب روح العصر وتُخلّد هذا الإرث الفني للأجيال القادمة.

رحاب هاني: ماذا يعني لك الفن اليوم بعد هذا المشوار الطويل، وكيف تغيّرت نظرتك إلى جمهوره ودعمه؟
حنان بارودي: الفن بالنسبة لي هو دواء للروح، وراحة للأعصاب.
في الماضي، كان الدعم المعنوي والمادي للفنانين كبيرًا، وكانت المبيعات في المعارض داخل لبنان تتجاوز النصف، أما في أفريقيا فكانت المعروضات تُباع بالكامل، لأنني كنت الوحيدة التي أعمل في تنسيق الأزهار من القماش والباندو.
أما اليوم، فالفن أصبح بالنسبة لي وسيلة للسلام الداخلي، لا للعرض أو البيع.
وحين أزور المعارض، أجد أن كثيرًا من الأعمال تفتقد تلك اللمسة الشخصية التي كانت تميّز كل فنان في جيله الذهبي.

رحاب هاني: ما الرسالة التي تودّين توجيهها لقرّاء موقع نادي الكتاب اللبناني»؟
حنان بارودي: يسعدني أن أتوجّه إلى قرّاء “نادي الكتاب اللبناني”برسالة من القلب:
يمكننا دائمًا أن نجد شيئًا نحوله إلى إبداع، فقط بالإصرار، والصبر، والإيمان بما نملك من موهبة.
ومنّي جزيل الشكر والتقدير لكل من يتابعني ويؤمن بأن الفن رسالة حياة قبل أن يكون

By Roger Saad

ناشط بيئي

اترك ردإلغاء الرد

اكتشاف المزيد من نادي الكتاب اللبناني

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version