Latest posts by Roger Saad (see all)

من مذكّرات د. فاروق غانم خداج

ما زلت أذكر ذلك الصباح الذي دخلت فيه المدرسة لأول مرة. لم أكن أفهم بعد معنى التعليم، ولا الفرق بين أن أكون تلميذًا وبين طفلٍ يركض في الحقول يطارد الفراشات. ولكن شيئًا في داخلي كان يقول: هذا الطريق الذي أدخله اليوم، هو الطريق الذي سأمضي فيه طويلًا، ولن أخرج منه إلا حين يأذن الله بانطفاء شمعة القلب.

كبرت وأنا أرى في التعليم رسالة، لا وظيفة، وفي المدرسة معبدًا، لا مجرد بناء من حجر. أحببت أن أكون معلّمًا، ليس بحثًا عن رزق، بل لإيقاظ نورٍ في العقول وزرع بذور الحلم والعقل والرحمة. كنت أرى المعلّم رسولًا من رسل النور، يسير في الظلّ ليُنير الطريق للآخرين.

وعندما جاء يوم التخرّج، امتدت أمامي طرق الحياة، واخترت التعليم عن طيب نفس، دون أن أعلم أنّ هذا الدرب في وطني سيكون درب شوك وخذلان. أحببت أن أعلّم في مكانٍ يُكرّم المعلّم كما يُكرّم الجندي المنتصر، غير أن الأقدار لم تشأ ذلك. بقيت أدرّس هنا، في بلد لا يعرف كيف يرفع رأسه إلا حين ينحني المعلّمون ليحملوه.

في البداية ظننت أن الصبر سيؤتي ثماره، وأن الدولة ستستيقظ يومًا لتدرك أن الأمم لا تُبنى بالخطب، بل بالكتب، ولا تنهض بالشعارات، بل بالمدارس. وكنت أقول لنفسي: المعلّم الذي يُضيء عقول الناس لا بدّ أن يُكرَّم، ولو بعد حين. لكن الأعوام مرّت، ورأيت زملائي يغادرون المهنة واحدًا تلو الآخر: من سافر، ومن انكسر، ومن استبدل الطبشور بعمل آخر يقيه العوز.

أما أنا فبقيت، لأن حب المهنة صار في قلبي كحب الأم لولدها العاق؛ لا أستطيع تركه، ولا أملك إلا أن أبكي عليه. ربع قرن من الزمان وأنا أدرّس، أتنقّل بين المدارس والصفوف، أرى الأطفال يكبرون، وأسمع أصواتهم وهم ينادونني “أستاذ”، فأشعر بالفخر، وكثير من الألم.

كنت أرى السياسيين يزدادون غنى ونفوذًا، ويُغدَق عليهم الوطن، بينما المعلّم الذي يصنع الأجيال لا يملك ما يسد رمق أسرته. كنت أرى الفاشل يُكرَّم، الجاهل يُرفَّع، المنافق يُمدح، والمعلّم يُنسى. وكأن الدولة قررت أن تحكم على المعلّم بأن يعيش في الفقر كما يعيش الراهب في صومعته، إلا أن الراهب يختار عزلته حبًّا في الله، والمعلّم يُفرض عليه عذابه باسم الوطن.

كم مرة جلست في نهاية النهار، وحدي في غرفة الصف بعد انصراف التلاميذ، أنظر إلى الكراسي الفارغة، وأسأل نفسي: هل كنت على حق حين اخترت هذا الطريق؟ ثم أجيب بصوت خافت: نعم، لأنك لم تختر طريق المال، بل طريق المعنى. غير أن المعنى وحده لا يُطعم الجائعين، ولا يشتري الدواء للأطفال. وهنا كان الألم الأكبر، ألم أن تكون على صواب ومع ذلك تشعر بالهزيمة.

في بعض الليالي، حين ينام أولادي، أجلس إلى مكتبي الصغير، أتأمّل أوراقي القديمة، وأتذكّر كيف كانت العيون تُضيء في وجوه التلاميذ حين يفهمون درسًا صعبًا. تلك اللحظة وحدها كانت تمنحني ما لا تمنحه رواتب الدنيا كلها.

أنا لا أطلب مالًا كثيرًا، ولا منصبًا كبيرًا، ولا شهرةً تُذكر. كل ما أردته هو أن أعيش بكرامة، وأُربّي أولادي دون خوفٍ من الغد. يبدو أن هذا كثير على بلد جعل من المعلّم آخر من يفكر فيه.

رغم ذلك، ما زلت أحب مهنتي. أحبها حب من يعرف أنه محكوم بها. أحبها لأنني حين أدخل الصف أنسى الدنيا وما فيها، أنسى الأسعار والسياسة والإهمال، وأشعر أنني أعيش لحظة صدق خالصة، كأنني أتنفس لأول مرة.

وقد يسألني سائل: لماذا لم تترك التعليم؟ فأقول له: لأن التعليم لم يتركني. حين أُمسك الطبشورة، أشعر أنني أُمسك بتاريخي كله، بطفولتي، بآمالي، وبصوت أبي الذي مات ولم يعرف أن ابنه سيغدو معلّمًا.

اليوم، بعد خمس وعشرين سنة، أؤمن أن النهضة تبدأ من الصف الصغير، من الدرس الأول، من تلك اللحظة التي يكتشف فيها الطفل أن المعرفة حرية. وإن ضاع هذا الإيمان من القلوب، ضاعت الأوطان.

لقد أُجبرت على البقاء في بلد لا يقدّر المعلّم، لكنني لم أُجبر على محبة التعليم. تلك المحبة بقيت خالصة، نقية، عنيدة. قد يسرقون منّي الأجر، لكنهم لا يستطيعون أن يسرقوا الإيمان بهذه الرسالة. فالمعلّم، وإن جاع، يظلّ خادمًا للضياء، يمشي على الأرض ولا يملك منها شيئًا، لكنه يترك أثرًا لا يزول.

وهكذا مضت خمس وعشرون حجة وأنا أصول وأجول في ميدان التعليم، أترك جزءًا من روحي مع كل تلميذ يغادر مقعد الدراسة إلى عالم الحياة الواسع.

وفي نهاية هذا الفصل، وبين ظلال الصفوف الفارغة، برز نور صغير من طالبٍ أعاد إليّ الإيمان بأن العطاء لا يضيع أبدًا، وأن الفصول القادمة تحمل وعدًا بأن الشمعة لن تنطفئ.

نبذة تعريفية للمؤلف والمشروع
“خادمُ الضياء” فصل كاشف من مذكّرات الدكتور فاروق غانم خداج، حيث يروي تجربته كمعلّم في لبنان والعالم العربي؛ من رهبنة الصفوف إلى صرامة الواقع الاقتصادي الذي يحبط طموحات المعلّمين. بلسان صارم وبصيرة إنسانية، يعالج الفارق بين المعنى والمال، ويبيّن كيف يبقى الضوء صاعدًا في قناديل العقول حين تموت الدولة اهمالاً وتجاهلاً. النص سيرة مفعمة بالكرامة والتمرد السلمي على ضغوط الزمن، مع وعد أن النهضة تبدأ من الصف الأول ومن درس يفتح باب الحرية على مصراعيه.

By Roger Saad

ناشط بيئي

اترك ردإلغاء الرد

اكتشاف المزيد من نادي الكتاب اللبناني

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version